للحكم بموضوعية على مشروع الدستور الحالى يجب الأخذ فى الحسبان عدة معايير، أعرض بعضها اليوم على أن أستكمل لاحقا. أولها طريقة وضعه، فلا شك أن تشكيل الجمعية التأسيسية شابها بعض المشكلات ولم تستطع القوى السياسية الاتفاق إلا بضغط المجلس العسكرى. لكن تم التوصل إلى التشكيل بتوافق وطنى، ولهذا لا يجب الآن إثارة مسألة التشكيل وإنما الحكم على مضمون الدستور وما إذا كان هذا المضمون يلبى أهداف الثورة والمعايير الموضوعية لأى دستور ديمقراطى. المعيار الثانى هو درجة توافق المجتمع عليه، ومن الخطورة تمرير الدستور فى ظل حالة الانقسام السياسى الحالى، أو تصور أن الاحتكام للشعب الآن سيحل المشكلة. ولهذا كنت أثناء أزمة «الانتخابات أم الدستور أولا» من المنادين بضرورة التوافق الوطنى على أحد المسارين قبل إقحام الجماهير والذهاب لصناديق الاستفتاء. فهذا ما تم بالكثير من حالات الانتقال الديمقراطى الناجحة، فاختلافات النخب لا بد أن تحل أولا على طاولة مستديرة وليس تصديرها للشارع كما حدث عندنا. ولهذا أرى اليوم خطورة فى الذهاب إلى الاستفتاء للتصويت على الدستور قبل الوصول لحل سياسى لحالة الانقسام الذى أحدثها الإعلان الدستورى. المعيار الثالث هو عدم ترسيخ الدستور لأى وصاية لأى جهة غير منتخبة (كالمؤسسة الدينية أو العسكرية) على مؤسسات الدولة المنتخبة. هذا أمر تحقق جزئيا فى نظر البعض فى شأن المرجعية الإسلامية وبخصوص المؤسسة العسكرية. لكن تظل هناك مخاوف من المادة 219 التى تفسر مبادئ الشريعة فى نظر البعض لكنها غير مفهومة لدى البعض الآخر. فى نظرى كان يجب الإبقاء على المادة الثانية فقط فى هذه المرحلة التاريخية وعدم فتح مسألة الشريعة الآن لأن هناك أولوية أكبر هى نجاح مسار الانتقال وضمان الحريات أولا. أما موقع الجيش فبرغم عدم النص على أى دور صريح للجيش كحامٍ للشرعية الدستورية، فإن هناك مخاوف من وجود ثلاثة مجالس عسكرية أو ذات طابع شبه عسكرى، وهناك مخاوف من العبارات المطاطة التى وردت فى شأن اختصاصاتها تحديدا، وفى شأن محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. أما الميزانية فلا يوجد نص على أن توضع ميزانية الجيش كبند واحد، لكن ينص الدستور على ضرورة أخذ رأى مجلس الدفاع الوطنى (وهو مشكل من 15 عضوا نصفهم تقريبا من المدنيين)، وهناك أيضاً مخاوف من قانون المجلس ذاته، ومن القوانين التى ستحدد الاختصاصات الأخرى للمجالس الثلاثة. والديباجة التى هى جزء لا يتجزأ من الدستور نصت بشكل واضح ولأول مرة على أن المؤسسة العسكرية مؤسسة وطنية محترفة محايدة ولا تتدخل فى الشأن السياسى. وهذا إيجابى. واقع الأمر أن معالجة العلاقات المدنية العسكرية تحتاج عادة إلى فترة زمنية ممتدة وإلى التدرج والحكمة بما يحافظ على المؤسسة ذاتها وعلى مستويات تدريبها وتسليحها وجاهزيتها من جهة وبما يضمن عدم تسييس الجيش أو خلق دولة داخل الدولة من جهة أخرى. ولهذا كتبنا وكتب غيرنا منذ شهور عن أن أقل شىء يجب التمسك به بدستور الثورة بشأن الجيش هو ما كان بدستور 71. وهناك خطورة من تأسيس وضع جديد لا يمكن تغييره بسهولة لاحقا. وللحديث بقية.