داخل محل أثرى يبلغ عمره أكثر من نصف قرن، تشع من جدرانه الجيرية ذات اللون السماوى ذكريات العمر؛ يقبع «عم حسنى عبدالباسط»، ذو ال 65 عاماً، ومعه ثلاثة عمال، سيدتان ورجل، أعمارهم من عمر ذلك المحل. لم يعرف الأربعة سوى مهنة واحدة امتهنوها منذ نعومة أظافرهم وهى صناعة «النداغة» أو «نبوت الغفير» أو «الفُنضام»، حلويات تربت عليها أجيال من كافة طبقات الشعب المصرى، فالأغنياء والفقراء يعرفون تلك الحلوى التى لم يفارق مذاقها أفواههم رغم بعد المسافة الزمنية بينهم وبينها، ورغم قلة وجودها فى زمن باتت فيه حلوى الأطفال على كل شكل ولون، فإن العسلية لا تزال ترتبط فى وجدان المصريين بتفاصيل زمن جميل مضى. تحت تلك الأسقف الخشبية والقضبان الحديدية التى تبطن سقف المصنع الصغير القابع بين حارات الفجالة العريقة، يأتى «عم حسنى» يومياً حيث يفتح دكانه ثم يعلق يافطة كرتونية متهالكة كتب عليها: «مواعيد العمل من 11 ل 6 والعطلة السبت والأحد». يخرج «عم حسنى» من بيته يومياً فى منطقة البساتين ليذهب إلى عمله الذى ورثه عن والده، نادباً حظه العاثر بسبب تلك المهنة، ورغم أنه أكمل تعليمه وحصل على بكالوريوس التجارة لم يحاول-وقتها- البحث عن وظيفة يتقاضى من ورائها بضعة جنيهات، فقرر مساعدة والده خاصة أنه يعلم تماماً أصول الصنعة، كما أن أحد أخويه أخرس والآخر لا يحب المهنة: «أنا كنت فى الأجازات باروح اشتغل مع أبويا فى المصنع». يترحم «عم حسنى» على أيام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ويقول: «من بعد سنة 1975 وأنا مش عارف أكسب من الشغلانة دى، الله يا يرحمك يا ناصر، مفيش رئيس جمهورية هييجى زيه، هوه اللى عمل التأمينات والمعاشات وكان مخلى باله من الفقير، الواحد أيامها يفتكر المقاومة الشعبية، كان عندى 15 سنة يوم ما دخلت المقاومة، كانت أيام عظيمة»، أما أنور السادات ف«الحسنة الوحيدة اللى عملها هى حرب أكتوبر، لكنه أخفق لما عمل معاهدة السلام مع إسرائيل، إحنا اللى انتصرنا يبقى إزاى نعمل معاهدة سلام، ده غير إنه باع البلد». وعن الرئيس المخلوع حسنى مبارك: «30 سنة سواد، الشعب كله اتعرض للمهانة والذل والفقر، الغنى بقى بيسرق من الفقير، ولو الصغير اتكلم بيروح فى الرجلين». مع أول انتخابات رئاسية يأمل المصريون أن تكون ديمقراطية؛ يرى «عم حسنى» أن كل المرشحين «طمعانين فى السلطة.. كلهم عايزين يدخلوا ويبرطعوا فى قصر الرياسة». ما بين جيل ثورة 1952 وثورة 2011 أكثر من نصف قرن تمر تفاصيله كشريط سينمائى فى ذاكرة «عم حسنى»: «زمان كان الواحد بيطلع عمرة ب (100) جنيه دلوقتى ب 5000 جنيه، زمان كانت الخامات موجودة، دلوقتى عشان أشترى أى حاجة لازم أروح السوق السودا، يعنى تبقى الشغلانة مش جايبة همها وكمان الخامات مش متوافرة، ده غير إنى عليا أكتر من مليون جنيه ضرايب». «عم حسنى» متزوج ويعول 7 أبناء منهم من أنهى دراسته بنجاح واستطاع أن يكمل مسيرة الماجيستير والدكتوراه، وآخر تعثر فى خطواته ولم يجد إلا «النقاشة» كمهنة حتى يستطيع التغلب على ظروف المعيشة، وخلال ذلك كله؛ يجد الرجل -الذى بدت على وجهه ملامح الحزن والأسى- صعوبة فى إيجاد عامل يمتهن تلك الصنعة: «أغلب العمال مش بيوافقوا على الشغل لأن اليومية 20 جنيه وطبعا قليلة، لكن ما باليد حيلة، لأن الشغلانة صعبة والحال نايم». وعن النداغة يتذكر «عم حسنى»: «العسلية مفيدة جداًً، بتنضف الصدر عشان فيها عسل أسود، ومحلى الصغير ده عبارة عن مصنع فيه آلات قديمة جداً وكلها يدوية»، ثم أشار بيده نحو إحدى الآلات وأخذ يشرح وظيفتها: «الآلة دى اسمها (المكد) ويتم فرد العسلية عليها، أما دى فاسمها (المقص)، أما اللى هناك فاسمها (المسمار) ودى بنفرغ العسلية من خلالها». يبدو حال هذا المصنع الصغير رثاً، فهو لا يعمل بكل طاقته إلا فى المواسم (مولد النبى.. عيد الفطر ) يقول «عم حسنى»: «التورتات الجاهزة حلت محل العسلية والنداغة والفنضام اللى كانت حلاوة الفقير والغنى، لكن عشان مفيش طبقة متوسطة بقت التورتة حلاوة الغنى، أما الفقير فبقى مفلس وما معهوش حق النداغة».