هل سألت نفسك يوماً لماذا تهرب منك الكلمات إذا ما طلب منك أحدهم التحدث عن ما هو قريبٌ منك غاية القُرب؟ ربما لم تفعل.. وربما أنك لن تجد إجابة عن هذا السؤال، ولكنى سأخبرك بشىء.. الحقيقة أننا لا نرى ما هو قريب منا بالقدر الكافى كما نرى الأشياء البعيدة.. فأنت تستطيع أن تتكلم عن السماء والقمر والبحار والنجوم وتصف وتُبحر فى بحور الوصف.. ولكنك تتوقف فجأة إذا ما سألك أحدهم كيف تصف نفسك.. ستحتار للحظات، ثم ستسقط ما بين ما تظنه عن نفسك وما تحب أن يكون فيك.. بين التواضع فى الوصف وبين الغرور والكبرياء.. ستحتار وستخدعك الكلمات، وستتلاعب بكَ الأفكار، حتى إنك ربما لن تجد ما تصف به نفسك سوى كلمة «أنا». هكذا سأبدأ فى حديثى عنكِ يا أمى بأنى ستتخبطنى الألفاظ وستبتلعنى الحكايا، وستعبث بى الأفكار لأنكِ «أنا». ■ أمى.. بالأمس حلمتُ بكِ.. ورأيتك مثلما كنتِ دوماً باسمة نورانية تتحرك الكلمات على شفتيكِ كأنها ترقص وتصلُ لآذانى كأنها موسيقى.. فاستمع كأنى أصلى.. «ارفع قدميكَ عن الأرض وسِر كأنك تطير.. لا تزحف» وفعلت.. وها أنا أطيرُ يا أمى ولا أزحف.. «إن الله يعطى الناس علو نواياهم، فأصلح ما داخلك يصلح ما خارجك» وفعلت.. وها أنا يا أمى لا أملكُ سوى نوايا وأحلامى وبراءة أيام لم تعُد تصلح فى تلكَ الأيام الصعبة.. «كُن أنت» وها أنا «أنا» أو ها أنا أحيا كأننى أنتِ.. ■ خمسة عشر عاماً قد مرت منذُ نظرتُ إلى عينيكِ الخاليتين من الحياة لآخر مرة قبل أن تمدُ يد -لا أدرى من أين أتت- لتسدل على وجهكِ غطاء لا لون له.. وكأنها تُسدلُ الستار على آخرِ فصول السعادة فى حياتى.. قبلها لم أكُن أدرى ما الحزن، ولا كيف يبدو ولم أكن أُلقِ للعالمِ بالاً.. كان وجهكِ المُتعب الذى يطالعنى كل ليلةٍ وأنا أعودُ مُتأخراً كعادتى وأنتِ تهمسين بكلماتك التى حفظتها «إنت جيت يا أحمد»؟ سؤال تعرفين إجابته ولكنكِ تُصرين على أن تسألى لتسمعى صوتى وتطمئنى أننى بخير.. أعرفُ أنى وأنا أتكلم عن أمى ستبدو كأمهاتكم جميعاً.. وسيجد كل منكم صدى ما أقولُ فى أذنه.. وفى رأيى أن تلك هى المعجزة.. أن مثل تلكَ المخلوقة الرائعة تقبعُ فى بيوتنا جميعاً ذلكَ الملاك الخارق صاحب المعجزات تراه كل صباح وكل مساء.. تقابله فى الطرقات وفى الأوتوبيس وفى محطة المترو وفى طابور العيش وفى المصالح الحكومية وعلى أرصفة الشوارع.. هذه الرائعة تملأ كل ركن من أركان حياتنا البائسة، ولكننا لا نراها.. ربما لأنها قريبةٌ جداً ذائبة فى أرواحنا وموجودةٌ فى لطف شديد، حتى إنها لا تكاد تُحس.. فما أن نفقدها.. حتى نتعلم المعنى الحقيقى لكلمة «الحرمان» ■ أحبوا أمهاتكم.. وأخبروهن بأنكم تُحبوهُن.. احملوهن بين أيديكُن ودوروا بهن.. ابتسموا لهن وأضحكوهُن.. واجعلوهن يشعرن بأنكم تروهن.. وتعلمون أنهن موجودات.. دعوهن يعرفن أنكم تعلمون كم أنهن رائعات ومهمات وأن كل لحظةٍ إلى جوارهن بألف سنة مما يعُدون. ■ أمى.. لكم وددتُ لو أنى نظرتُ إليكِ أكثر.. ابتسمت لكِ أكثر.. احتضنتُكِ أكثر.. أخبرتُكِ ولو مرة أننى أحبكِ.. ولكن لا جدوى الآن.. وربما عزائى الوحيد هو أنكِ فى داخلى تعيشين وستظلين.. وستظل كلماتك تُعمِد طريقى وتضع لى مبادئى وتعلمنى.. سيظل كل نجاح لى هو نجاحك، وفى كل خطوة أخطوها سأراكِ أمامى تمدين يديكِ لى كأنكِ تُعلّمينى المشى، وتحوّطينى مخافة أن أسقط.. لا بأسَ عليكِ يا أمى ولا خوف.. فأنتِ فى قلبى.. وأنتِ «أنا».