(1) "علي داخل الغرفة".. صرخة واهنة ورجاء، أطلقها والدا "علي الدوابشة"، الرضيع الفلسطيني الذي مات حرقًا فجر اليوم، لكن علي بقي في الغرفة ولم يخرج، وقف والداه بعيون أرهقها البكاء وصدور خنقها الدخان الكثيف، الذي صعد للسماء يرافق روح الرضيع الصغير، يتطلع الأبوان في المنزل الملتهب بنيران المستوطنين الذين قرروا حرق المنزل، في طقس جديد من طقوس هواياتهم المسمومة، التي تخش منها حتى الشياطين. (2) أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي وتكبر في الطفولة يومًا على صدر أمي وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي "محمود درويش" (3) مات الصغير حرقًا.. أبت روحه البريئة البقاء وسط أكوام الدمار والمستقبل المظلم، مستقبل لا مستقبل له، رفض الواقع المؤلم، لم تبق منه إلا "بفتة" صغيرة، مكتوب عليها "صباح الخير يا ماما". "ماما" التي ترقد في المستشفى إلى جانب زوجها وابنيها الصغيرين في حالة خطرة. ترى هل تعرف "ماما" أن الصغير غادر حضنها للأبد!. (4) تزينت الرياح لاستقبال الملاك الصغير، أفراح تقيمها السماء احتفالًا بالوافد الجديد القادم من الأرض المباركة، التي يرتع فيها المحتل بلا حسيب أو رقيب، صباح جديد تشرق شمسه في الغد، بدون "علي". آخر ضحايا مجازر المحتل الإسرائيلي، الذي يتفنن في القتل والتعذيب منذ أعوام طويلة بدون رادع. (5) فلسطينيون أرهقهم الحال، لكنهم أبدًا لم يفقدوا اليقين في أن تعود فلسطين، أن يعود من خرجوا من ديارهم في العام 1948 إليها، ويجدوا برطمانات الزيتون التي خزنتها النساء للطعام، والطير التي كانت تربيها السيدات في مزرعة صغيرة بجانب المنزل، أن يشموا رائحة منازلهم كما كانت قبل أن تدنسها أقدام الغزاة، هناك في الأرض المباركة كانت الأشجار خضراء كأنها خرجت للتو من رحم الأرض، والنخل باسقات شامخات، ترى. هل يعود الماضي بما كان! (6) وتسأل ما معنى الوطن سيقولون: هو البيت وشجرة التوت وقن الدجاج ورائحة الخبز والسماء الأولى وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات وتضيق بنا؟ "محمود درويش" (7) منذ أعوام، قال الكاتب السعودي عبدالله القصيمي: "العرب ظاهرة صوتية"، بعد كل ما يحدث للعرب وفي العرب، ترى هل كان القصيمي صادقًا؟. وترى هل المجتمع الدولي أيضًا ظاهرة صوتية كالعرب؟. اكتفوا جميعًا بالشجب والاستنكار، وإظهار القلق من تدهور الأوضاع، والدعوة إلى ضبط النفس. مات "علي" كما مات قبله كثيرون وسيموت بعده أكثر، وسيكتفي الجميع بالشجب والاستنكار، حق الصغير عند الله. وما عند الله لا يضيع.