على مصطبة عريضة أسفل منزل من 4 طوابق تجلس أم حسن، 50 عاماً، أمام غرفة اقتطعتها من المنزل الكبير لتحيلها إلى «بقالة» لبيع الحلوى، بعد أن رحل زوجها عن الحياة منذ عامين مضيا، تعتاد فتح بقالتها مع أول خيوط النهار الرمادى، وتغلقه بحلول الليل، وبين الصباح والمساء لا تتوقف نساء القرى وحاملات الجرار والأوانى الكبيرة عن القدوم إلى أسفل منزل عائلتها الكبيرة لملء أوانيهن بالمياه بعد أن انقطعت المياه تماماً عن قرية تلبانة بمحافظة الدقهلية منذ شهر، لتبدأ معاناة القرية فى عطش دائم، ورحلات ملء المياه تقطعها نساء القرية بين المنازل القليلة التى تحظى بطلمبات مياه ارتوازية من باطن الأرض. تروى أم حسن، 50 عاماً، معاناة نساء القرية اللواتى يترددن عليها طوال ساعات النهار والليل لملء الأوانى بالمياه «بندفع كلنا فلوس على ميه ما بتجيش ولا بنشوفها، ولما بتيجى بتبقى صفرا لأن مواسيرنا وسخة مش نضيفة ومصدية، واحنا على الحال ده من قبل رمضان بعشرة أيام»، فمنذ قرابة شهر لا ينقطع أزيز الموتور عن سحب المياه، ما يقلق منامها، إلا أنها لم ترد سيدة واحدة من القرية حضرت لملء المياه، بل قامت بتهيئة حوض محاط بقوالب من الطوب الأحمر ومسطح ب«سيراميك» مثقوب بماسورة تتصل بمياه الصرف لتهيئة المكان لاستقبال مئات النساء يومياً لملء المياه، وتتابع: «أنا عملت حوض علشان الناس اللى تيجى وعلشان الميه اللى بتدلق منهم ما تبهدلش الشارع، عملنا صرف، وجهزنا حوض ليهم، وأدينى سايبة المفتاح أهو على الموتور اللى عايز يملا بيملا». صندوق حديدى يتدلى رفرفه إلى الأمام باتجاه الشارع، يحوى بداخله موتور مياه غطته الأتربة وحجبت عن زجاجه رؤية مؤشره المعطل، يخرج منه ماسورة طويلة ترتفع إلى الأعلى لتمد المياه إلى ثلاثة طوابق بالمنزل المطل على المعهد الدينى الأزهرى فى بطن قرية تلبانة التابعة لمركز المنصورة بمحافظة الدقهلية، يقف عادل محمد 66 عاماً أمام الموتور محاولاً تشغيله آملاً أن تصله قطرات مياه نظيفة من المواسير العمومية التى تتفرع فى شوارع وحارات قريته، إلا أن خيبة الأمل كانت تنتظره كالعادة فى الحصول على مياه نظيفة يدفع ثمنها دون أن تصله. يمد «محمد» يده إلى جيبه ويفتح حافظة نقوده ليخرج 3 فواتير مياه دفعها خلال الشهور الماضية تتراوح ما بين 90 إلى 100 جنيه، قبل وبعد الأزمة، ليشير إلى أنهم «حافظين مش فاهمين»، منتقداً الطريقة التى تعمل بها شركة المياه فى تحصيل فواتير غير مطابقة للاستهلاك كشفتها أزمة المياه التى تعانيها القرية، قائلاً «عايزين ميه بالفلوس اللى بندفعها، ماهو أنت ما تاخدش منى فلوس وما تدنيش إنتاج». يتابع «محمد» رواية معاناة قريته من نقص مياه الشرب، بقوله «القرية كلها بتعانى من الأزمة وأنا فلاح عندى 6 أولاد، وبزرع أرضى هبقى فاضى أروى الأرض ولاّ أملى ميه ولاّ أشوف حالى»، مشيراً إلى أن الأزمة ليست بجديدة ولكنها أزمة موسمية تحل كل صيف لكثرة استهلاك المياه، وأنه قام بتركيب الموتور لسحب المياه فى قريته لكونها تعانى من أزمة نقص مياه الشرب، إضافة إلى تلوث المياه حينما تصل إلى القرية فى الشتاء، مشيراً إلى أن لجان معاينة من مجلس المدينة حضرت إلى القرية لتحليل المياه ووجدت أنها غير صالحة للشرب أو الاستهلاك المنزلى، موضحاً أن غالبية منازل القرية قامت بتركيب مواتير لسحب المياه إلى المنازل إلا أنها تظل بلا جدوى فى ظل انقطاع المياه عن المواسير العمومية التى تمد القرية بالمياه. وعلى بعد 80 كيلومتراً من قرية تلبانة باتجاه الشمال الشرقى لمحافظة الدقهلية، يغطى اللون الأخضر آلاف الأفدنة من الزراعات التى تحتاج إلى ملايين الأمتار من المياه، لزراعة الأرز بمدينة الجمالية الواقعة على ضفاف بحيرة المنزلة وهى المدينة التى يعتمد أهلها على الصيد والزراعة، مسقط رأس المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء التى يعانى أهلها محنة قاسية من العطش وتلوث مياه الشرب إن وجدت. على أريكة خارج منزله الفسيح الواقع على أطراف قرية السيالة بالجمالية، يجلس رجل فى العقد السابع من عمره، خط الزمن على وجهه الذى لفحته الشمس خلال سبعة عقود مضت بصماته، تاركاً وجهاً يعبر عن قسوة الحياة والعطش والمرض، يتناول بين الحين والآخر حقيبة بلاستيكية يركنها جانبه وتحتوى على أنواع عدة من الأدوية المعالجة لأملاح الكلى وأمراض الجهاز الهضمى، كان المرض هو حصيلة ما جناه من بقائه فى قريته العطشى، والتى لا تزورها مياه الشرب إلا وهى حاضنة من الشوائب ما يكفى لأن يتحول لونها الشفاف إلى طلاء أصفر أو أسود، يتسخ من يقترب منها. إبراهيم أبوليلة 70 عاماً، فلاح، أحد أهالى القرية، يروى ل«الوطن» ما عانته القرية منذ سنوات عديدة من نقص فى مياه الشرب وملوثات تزور أرضه وصنابير منزله، حيث اكتظت أطراف القرية بأكوام قمامة ومخلفات عضوية لوثت الترع التى يروى منها أرضه، والتى كانت قبل عشرات السنين مصدراً للمياه النظيفة لرى الأرض وغسل الأوانى وبعض الأغراض المنزلية، ليتقدم الزمن به ويحل على القرية أسوأ المحن التى تنتظرها، والتى تهدد صحة أهلها، ويتابع: «الأول كانت الترعة نضيفة وممكن تستخدم الميه بتاعتها، إنما دلوقتى حيوانات ميتة وزبالة بتترمى فيها لحد أما بقت ميه منتنة وبقينا نروى الأرض والحريم تغسل الحلل من ميه نتنة». ويضيف «أبو ليلة»: «إحنا بقالنا سنتين الميه ما بتجيش فى الحنفية ولا بنعرف نشرب ولما بتيجى بتبقى الميه صفرا ومعفنة وبنضطر نشرب ميه معدنية وإحنا مش قد تكلفتها على طول»، أصيب الرجل العجوز خلال السنوات القليلة الماضية، بأمراض الكلى والجهاز الهضمى، وظل ملازماً لأريكته التى لم يفارقها بينما يحضر له أولاده زجاجة المياه المعدنية ليشرب منها لأنه أصبح غير قادر على رشفة من المياه «العكرة» التى تزور صنابيرهم بين الحين والآخر. يوضح «أبوليلة» أن مجلس المدينة كان يدعم القرية بجرار مياه يحمل كميات كبيرة من المياه إلى القرية لتوزيعها على المنازل، متابعاً «كنا بنديله فى إيده 10 جنيه علشان نشجعه ييجى تانى لكن ما بقاش ييجى إلا كل شهر»، مشيراً إلى أن المواسير التى تمد القرية بالمياه رفيعة ولا تكفى لمد القرية باحتياجاتها من المياه وكانت هناك مطالب بتكبيرها لضخ كميات مياه تكفى لكل منازل القرية إلا أن الرد جاء بقطع المياه نهائياً عن القرية، ما دفع النساء إلى الاعتماد على مياه الترعة الموجودة بالقرية فى غسل الأوانى والأغراض المنزلية ما يزيد من الأعباء على كاهلهم إضافة إلى انتشار الأمراض الجلدية بينهن. ويتهم شريف عبداللطيف، أحد أهالى القرية، الفنيين والعمال فى شركة المياه بالتربح من وراء الأزمة واستغلالها لجنى رشاوى نظير فتح محابس المياه لبعض القرى، موضحاً أن الأزمة تستمر فيما لا يزال أهالى القرية يدفعون الفواتير التى تتراوح بين 100 إلى 140 جنيهاً، مشيراً إلى أن نساء القرية يستخدمن مياه الرى المختلطة بمياه الصرف الصحى ما يتسبب فى انتشار أمراض الفشل الكلوى وأمراض الكبد والفيروسات، موضحاً أن القرية بها نسبة عالية من الفشل الكلوى. وتابع: «لازم تدى العمال والفنيين بتوع الميه فلوس علشان يفتحوا المحبس ويوصلوا لك الميه، ولما تروح تشتكى ييجى المهندس يفتش يفتحوا الميه ويتوّهوا المهندس لأن دى منطقتهم»، مشيراً إلى أنه بعيداً عن اتهامه الفنيين والعمال فإن هناك أزمة تثبت تقصير مجلس المدينة والمسئولين عن مياه الشرب، لافتاً إلى أن القرية تستخدم فى مياه الشرب جراكن يتم ملؤها من قرى بعيدة، وأن الأهالى فى حاجة إلى أن يتخلصوا من الأزمة التى أصبحت كابوساً يحول بينهم وبين راحتهم، مطالباً بمحاسبة المقصرين والمتسببين فى الأزمة التى ظلت مستمرة منذ قرابة عامين. وتضيف «ه. خ» إحدى نساء القرية، أن النساء فى القرية يضطررن يومياً إلى استخدام مياه الترعة فى تنظيف أدوات المنزل واستحمام أولادهن فى الترعة التى نعرف أنها ملوثة وأنها مختلطة بمياه الصرف الصحى، وتقول السيدة: «أنا ساعات بعيّط لأنى مش عارفة أتصرف ولا عارفة أعمل حاجة وبقالنا كتير فى المشكلة دى». أما فى عزبة عبدالحكيم إحدى العزب بمدينة الجمالية، فتنتشر بعض الخراطيم التى تتدلى إلى الترعة الرئيسية التى لا يزيد عرضها على متر واحد والتى تزود أراضى العزبة بمياه الرى، بينما تسحب مواتير صغيرة ملقاة على ضفاف الترعة المياه إلى داخل العزبة لتصل إلى المنازل التى تستخدمها فى التنظيف المنزلى أو فى رى الأراضى أو سقاية المواشى. وعلى أبواب منزل من طابق واحد مطل على الترعة الصغيرة، يجمع محمود عبدالحكيم الشبل، عدداً من جراكن المياه الفارغة ليربط مقابضها بأحبال قوية لنقلها على دراجته النارية لملئها من القرى المجاورة، وهو مشهد يتكرر كل يوم من 3 إلى 4 مرات - بحسب قوله. «عبدالحكيم» تخرج فى كلية شريعة وقانون جامعة الأزهر العام الماضى، وله 11 أخاً وأختاً، لم يتبق فى منزل العائلة بالقرية سواه وأخته ووالدته، وحمل على كاهله شئون البيت وأرض والده المتوفى، ويروى تاريخ أزمة المياه فى عزبته التى بدأت من 20 ديسمبر عام 2006 وهو نفس اليوم الذى تم فيه توصيل خط المياه إلى القرية، حيث لم تصل المياه إلى العزبة منذ أن تم تركيب الخط إلا نادراً، مضيفاً أنه بعد عام من توصيل الخط بلا جدوى قام أهالى العزبة بحفر الخط من جديد للقيام بعملية زيادة نوعية فى عمق الخط حتى يصبح أكثر انحداراً على أمل أن تنساب المياه عبر الخط وتصل إلى القرية، ثم يتم سحبها بالمواتير إلى المنازل، ما كلف القرية 15 ألف جنيه، تم جمعها من الأهالى كل بحسب قدرته، مشيراً إلى أن بعض المنازل دفعت 500 جنيه وأخرى أقل وثالثة لم تدفع لعدم قدرتها على الدفع، إلا أنه بعد هذه الحيلة التى نصحهم بيها مجلس المدينة نفسه، فشلت المحاولة أيضاً، ما زاد من الأزمة واعتماد القرية على مياه الترعة الملوثة إلى جانب ملء المياه من على بعد عدة كيلومترات من القرى المجاورة. واستنكر «عبدالحكيم» تقاعس مجلس المدينة ورئيسه عن حل الأزمة التى قاربت على 10 سنوات من انقطاع للمياه، مشيراً إلى أن رئيس مجلس المدينة قال «أنا شخصياً ما أقدرش أقول حاجة للعمال والفنيين»، وأن أحد العمال قال «ده الموسم بتاعنا ولازم نشتغل» فى إشارة منه إلى تلقيه بعض الأموال لتشغيل الخط وفتح المحابس لتوصيل المياه، متهماً العمال والفنيين بالتربح من الأزمة عن طريق تلقى رشاوى من بعض العزب والقرى لفتح محابس المياه على خطوطهم لتصلهم المياه. ويروى الشاب الأزهرى، أن محاولته فى الخطبة من إحدى بنات القرى المجاورة فشلت بسبب نقص المياه فى عزبته بقوله: «أنا رُحت أخطب.. أم البنت قالت لى يا ابنى أنت ما تتعيّبش بس أنا أديلك البنت تروح تتبهدل وما تلاقيش ميه تشربها ولاّ تغسل من ميه وسخة يجيلها المرض»، لافتاً إلى أن الأزمة اشتهرت بها العزبة نتيجة اعتياد أهلها على ملء المياه من القرى المجاورة ثلاث أو أربع مرات يومياً كلٌ بحسب حاجته، وأنه قام بتقليص عدد المواشى لديه لتعرضهم للأمراض القاتلة. ويضيف «عبدالحكيم»، أن أحد رجال شركة لفلاتر المياه جاء ليختبر جودة الفلتر فى معالجة المياه فأصيب الجهاز بالعطل من شدة التلوث الموجود بالمياه، وأنه أحضر كوب شاى للمندوب إلا أنه رفض أن يشربه بعد أن تعطل الجهاز من كثرة الملوثات الموجودة بالمياه، قائلاً: «الراجل قال لى أشرب إزاى ده الميه من عكرتها وقفت لى الجهاز». وفى عزبة الشبل بالجمالية، قام الأهالى بتركيب 3 خطوط بالجهود الذاتية لسحب المياه من الماسورة العمومية إلا أن المسئولين بالمدينة قاموا بإيقاف خطين ولم يسمحوا إلا بتشغيل الثالث بعد أن تم تعميقه ما عرضه للاختلاط بمياه الصرف التى تتسرب إلى طرنشات أسفل سطح الأرض. ويقول مسعد محمد الشبل، أحد أهالى العزبة، إن العزبة تكبدت 150 ألف جنيه لتركيب الخطوط الثلاثة إلا أنه لم يتم ضخ المياه إلا فى خط واحد بحجم بوصة واحدة لكل أهالى العزبة، ما يعجز عن تلبية حاجة العزبة من مياه الشرب، مضيفاً أن تعميق الخط زاد من تلوث المياه لوجود بعض التسرب فى توصيلات المياه ما يسمح بدخول مياه الطرنشات إلى خط مياه الشرب الذى لم يكف أهالى القرية من المياه، موضحاً أن العزبة باتت تعتمد على ملء المياه من القرى المجاورة أو شرائها. وفى قرية الليسا المطلة على بحيرة المنزلة، ويعمل غالبية سكانها التى يصل تعدادهم إلى 20 ألف نسمة فى مهنة الصيد، ضربت أزمة المياه القرية ما تسبب فى خروج النساء من المنازل إلى شط البحيرة لغسل الأوانى وملئها بعد أن فشل المسئولون فى حل الأزمة التى ظلت موجودة منذ سنوات إلا أنها تفاقمت خلال الشهور القليلة الماضية. ويقول رضا يوسف فياض، صاحب ال44 خريفاً، ويعمل صياداً فى بحيرة المنزلة، إن مشكلة المياه قديمة وعجز مسئولو شركة المياه عن حلها، وإن المياه منقطعة منذ أكثر من 6 شهور إضافة إلى أن المواسير غير صالحة لتوصيل المياه حيث بها عدة كسور سمحت بتلويث المياه، ما جعل أعداداً كبيرة تصاب بفشل كلوى، ويشهد على النسبة مستشفى الجمالية الذى يتردد المصابون من أهالى القرية عليه، وأنه أصيب بفيروس b وأملاح على الكلى نتيجة شرب المياه التى تصل إلى المنازل بين الحين والآخر. ويضيف «يوسف» أن أهالى القرية يشترون جركن المياه ب2 جنيه و25 قرشاً، وأن الشركة إذا أرسلت مياهاً إلى القرية ترسل فنطاساً واحداً على 20 ألف نسمة كل فترة ما يتسبب فى حالة من الزحام والشجار على أسبقية الحصول على المياه، متهماً مجلس المدينة وشركة المياه بالتقصير فى علاج الأزمة قائلاً: «لما اشتكينا آخر مرة قالوا لنا المحبس عندنا شغال المشكلة عندكم فى المواسير فحفرنا وكل بيت دفع 150 جنيه ولقينا المواسير بتاعتنا سليمة»، مشيراً إلى أن الأزمة لن تحل إلا إذا تدخل أحد المسئولين الكبار للقضاء على الفساد والرشاوى داخل مجلس المدينة وشركة الكهرباء. وإلى الجنوب من الجمالية بنحو 15 كيلومتراً، يعانى أهالى حى عمر بن الخطاب بقرية الكردى من أزمة موسمية فى نقص مياه الشرب، وعلى الرغم من تقديم شكاوى عديدة خلال العامين الماضيين إلا أن الأزمة لم تحل بحسب قول محمد صالح، أحد أهالى الحى، مشيراً إلى أن المنطقة بها محطة مياه كفر الكردى، التى من المفترض أن تضخ المياه للقرية كلها إلا أنها تضخ لقريتى الرياض والخضيرى.