حين خرج أهل المدائن ينتظرون قدوم الموكب.. إنه واليهم الجديد الذى ولّاه عليهم سيدنا عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، وكانوا قد سمعوا عنه وعن بلائه فى فتوحات العراق وحروب بلاد فارس.. انتظر الجميع طويلاً خارج المدينة.. البعض يمنّى نفسه بالتقرب من الحاكم الجديد.. ليحظى بمكانة رفيعة فى نظام تلك الدولة الوليدة.. والبعض يملؤه الفضول، ليرى هذا الرجل الذى ما زالت أخباره ترد إليهم بانتصاراته.. حتى أقبل عليهم رجل بسيط الملبس.. يمتطى بغلة مسكينة.. ويمسك بيديه رغيفاً يأكل منه ببساطة..! لم يبعث حذيفة بن اليمان.. هذا الصحابى الجليل، رضى الله عنه، فى نفوس مستقبليه من أهل العراق الرهبة.. بقدر ما بعث فى نفوسهم الدهشة الشديدة.. فهم لم يعتادوا أن يكون الحكام بهذه البساطة.. فقد اعتادوا على ولاة فارس الذين كانوا يتفننون فى البذخ والمظاهر التى تخلب العقول.. فهالهم أن يأتى إليهم واليهم الجديد دون موكب فخم.. ودون حرس أو خدم..!! هل هذا هو من سيحكم العراق؟!! استمر الرجل فى طريقه على بغلته حتى وصل إلى المسجد الكبير.. دون أن يلتفت إلى الرجال الذين يلتفون حوله.. ودون أن يلقى بالاً لهمهمات الاستنكار التى خرجت من مستقبليه.. نظر إليهم حذيفة، رضى الله عنه، وهو إمام المسجد.. إنه يدرك ما فى نفوسهم من دهشة.. فابتسم فى رضا.. ونزل من على بغلته فى هدوء.. ودخل المسجد وصعد منبره.. ثم نظر إليهم.. وبصوت جهورى.. وضع فيه ثقته بالله وبنفسه.. قال: أيها الناس... إياكم ومواقف الفتن.. فرد عليه الناس متسائلين: وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله فرد عليهم: أبواب الأمراء.. يدخل أحدكم على الوالى أو الأمير، فيصدّقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه..! كان هذا الميثاق الذى وضعه حذيفة بن اليمان -عدو النفاق كما وصفه الراحل خالد محمد خالد- هو حجر الأساس الذى بدأ به حكمه ولايته.. كان حذيفة، رضى الله عنه، يكره النفاق كما يكره الكفر.. فلم يسمح بأن ينافقه أحد.. وكانت رسالته الأولى التى أرسلها لأهل العراق.. أنه لن يسمح بنفاق أو تزلف.. وأنه لا مكان للراقصين فى بلاطه.. لقد كان يعلم جيداً.. أن النفاق صفة متأصلة فى كل الشعوب.. ولكن تأثيرها من عدمه يتوقف على الحاكم نفسه الذى يسمح به.. أو يمنعه.. فالحاكم يتحمل وزر منافقيه بسماحه لهم بممارسة النفاق عليه، فقرر أن يمنع الأمر من منبته. فهكذا كانوا.. رعية وحكاماً.. وللحديث بقية إن شاء الله.