سجلات الشرف لأصحاب سيدنا محمد - صلي الله عليه وسلم - مليئة بالمواقف المشرفة والبطولات الرائعة. التي تؤكد أن قيم الإسلام ومبادئه قد انعكست علي سلوكيات هؤلاء الرجال وقد أضاءوا الدنيا بحرصهم علي تطبيق هذه القيم بكل دقة في سائر تصرفاتهم وشئون حياتهم وشهدت أرض الواقع الكثير من هذه الأعمال وأكدت بما لا يدع مجالاً للشك أنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وكانوا بحق نماذج مشرفة بكل ما تعنيه الكلمة وقدوة للأجيال في كل العصور المتعاقبة وقد تركوا تراثاً مليئاً بالأعمال والتصرفات والبطولات المشرفة في كل المجالات. لقد سجلت كتب السيرة والتراجم الكثير من هذه الصور والنماذج التي نضعها أمام أبنائنا وبناتنا من شباب هذه الأيام. لكي تضيء لهم معالم الطريق في حياتهم. ولعلهم يكتسبون بعض هذه الصفات التي تساعدهم في بناء الأمة ومجتمعاتهم في ظلال هذه القيم السامية. التي أضاءت الدنيا وأشرقت شمس الحضارة الإسلامية في كثير من بلاد العالم شرقاً وغرباً. ولعل هذه الأجيال يضعون هذه الأعمال نصب أعينهم ليكونوا خير خلف لخير سلف. من هؤلاء الرجال العظام - الذي تمني عمر بن الخطاب الكثير منهم - معاذ بن جبل - الأنصاري الخزرجي - الذي أسلم وعمره ثمانية عشر عاماً وكان من بين السبعين من أهل المدينةالمنورة الذين شهدوا بيعة العقبة. وقد شهد مع الرسول صلي الله عليه وسلم المشاهد كلها وكان من أشد الناس حرصاً علي حفظ كتاب الله ففي مسند الإمام أحمد أن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : خذوا القرآن عن أربعة: عن ابن مسعود. وأبي بن كعب. ومعاذ بن جبل. وسالم مولي أبي حذيفة. ومما يضاف إلي تاريخ ابن جبل ويضع صورة ناصعة أمام الأجيال أن رسول الله ْصلي الله عليه وسلم قال: أرحم أمتي بأمتي أبوبكر. وقال: أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل. وتقديراً لهذه المكانة وذلك الالتزام والصدق اختاره رسول الله والياً علي اليمن خاصة بعد أن تكاثرت عليه الديون قائلاً: "لعل الله يجبرك. ويؤدي عنك دينك" لكن قبل أن يرحل من المدينةالمنورة رسولاً لسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم في أرض اليمن كان هناك حوار بين الرسول صلي الله عليه وسلم وبين معاذ بن جبل ليتأكد الرسول كيف يتصرف ابن جبل في إدارة شئون البلاد هناك.. تفاصيل الحوار كالتالي: الرسول: يا معاذ بم تقضي بين الناس إذا "صادفك قضاء"؟ معاذ: بكتاب الله. الرسول صلي الله عليه وسلم: إن لم تجد. معاذ: التزم "بسنة رسول الله". الرسول: إن لم تجد؟ معاذ: "اجتهد رأيي ولا آلو" أي لا أقصر.. هناك بدا السرور علي وجه رسول الله صلي الله عليه وسلم ونال ابن جبل اعجاب الرسول فضربه في صدره حباً واعجاباً قائلاً: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله" وقد ظل معاذ صادقاً في هذا الأداء. وكان دائماً يحاسب نفسه ومما يؤثر عنه أنه كان يتهجد بالليل ويردد الدعاء قائلاً: "اللهم نامت العيون. وغارت النجوم وأنت حي قيوم. اللهم: طلبي الجنة بطيء. وهربي من النار ضعيف. اللهم اجعل لي عندك هدي ترده إلي يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد" وقد ظل معاذ علي هذا الوفاء حتي توفي باليمن متأثراً بمرض الطاعون وقد ترك خلفه سجلاً حافلاً بالعطاء والعمل الجاد في كل شئون الحياة. ومن النماذج والاسوة الحسنة حذيفة بن اليمان هذا الرجل أبلي بلاء حسناً في سبيل الله وكان بحق بطلاً في المعارك التي خاضها المسلمون. وقد كان يتخوف كثيراً من الشر فيقول: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير. وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. وكان يتمتع بفراسة بين أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث كان ينفرد بمعرفة كل المنافقين. وكان موضع ثقة أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وأن عمر رضي الله عنه كان يستعين بحذيفة بن اليمان في معرفة كل منافق. وهذه الميزة التي انفرد بها حذيفة جعلت الرسول يختصه بذلك. ومن بين تلك المواقف في التعرف علي المنافقين. فقد سأله عمر يوماً. أفي عمالي أحد من المنافقين؟ حذيفة: نعم. عمر: من هو؟ حذيفة: لا أذكره. هناك فطن عمر إلي ذلك الشخص وكأن حذيفة قد أرشده إلي ذلك الرجل. حذيفة لم يتغير ولم تشغله زخازف الحياة. ولهو الإمارة وذلك حين ولاه عمر علي المدائن. وعندما أخبر عمر أهل المدائن بذلك في رسالة إليهم انطلقوا يستقبلون هذا الوالي الجديد ولسان حالهم يردد أن هذا الرجل له شأنه. وقد لقيهم راكباً بغلاً كفرد من الناس فلم يعرفوه. فتجاوزوه ثم اخذوا يسألون عنه لكنهم دهشوا عندما عرفوا أن الراكب الذي لقيهم هو الأمير القادم من طرف عمر بن الخطاب فانطلقوا إليه وقد وجدوه يتناول طعامه كفرد من أحاد الناس دون أن يميزه أي شيء. وقد سألوه: ماذا تريد منا؟ قال: لا شيء سوي طعام لي.. وعلف للداية التي أركبها. وظل حذيفة محتفظاً بهذا الزهد ولم تغيره الولاية في أي شيء من شئونه. فها هو بعد انتهاء مدته بين أهل المدائن كتب إليه عمر لكي يقدم إليه فلما بلغ عمر أن حذيفة قادم. تلقاه بالطريق فلما شاهده علي الحال التي خرج بها من المدينةالمنورة انبهر به عمر وزاد اعجاباً به ثم قال له: "أنت أخي وأنا أخوك". هذه بعض المواقف المشرفة نضعها نصب أعيننا وأمام أجيال هذه الأيام. لعلنا نقتدي بهم في حياتنا والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم.