الحضارة تعنى أساساً التقدم المادى والروحى للأفراد والجماهير على السواء، وأول مقومات ذلك التقدم هو تقليل الأعباء المفروضة عليهم والناشئة عن الكفاح والصراع فى الوجود سواء مادياً أو معنوياً بإطلاق طاقاتهم وحرياتهم بإيجاد الظروف المواتية فى الحياة للجميع. ويتم تخفيف الكفاح بسيادة العقل على الطبيعة الخارجية القاسية وعلى الأنانية والطمع الإنسانى. هذا التقدم لا يتم عشوائياً بل يلزمه خارطة عمل يسبقها ويتوازى معها سيادة عقلية، وهذا كان واضحاً فى الحضارة الإسلامية التى عنيت تماماً بنقل وتعريب العلوم والفلسفة والإدارة من حضارات سابقة عليها سواء من الفرس أو من اليونان أو من مصر. والسؤال: هل كان ممكناً أن تقوم هذه الحضارة دون هذه العلوم والفلسفات والأفكار المنقولة؟ هل كان ممكناً أن يكون عندنا الفارابى أو ابن خلدون وغيرهما دون استيعاب هذه الفلسفات والأفكار تماماً؟ ثم إن الحضارة الغربية التى نحيا جميعاً فى ظلها اليوم قامت هى أيضاً بنقل هذا التراث العلمى والعقلى فاستفادت من الفارابى وابن رشد وابن سينا وغيرهم كما قامت باستخراج الفلسفة اليونانية والعقلانية والقانون الرومانى. هذه الأفكار هى التى شحذت العقل وأنتجت المسيحية البروتستانتية التى ساهمت كثيراً فى تقليص سلطة الكنيسة وحجمتها (تقدم روحى)، وفى تلك المناطق التى سيطرت فيها البروتستانتية تنامت الرأسمالية والحريات والعقلانية (تقدم روحى ومعنوى) بصورة أسرع وأغزر عن المناطق الكاثوليكية الأكثر انغلاقاً وتشدداً واستحواذاً على سلطة الدين والدنيا معاً، وهو نفسه مانعانيه الآن فى بلادنا التى ترى فيها تيارات الدين السياسى وغيرهم من المدعين والسلطويين أن سلطة الحكم واحدة تجمع وتربط الدين والدنيا معاً. إن هذا الربط هو من ميراث ما قبل الحضارة وهو ما يمنعها عنا ويمنعنا عنها، لقد فككت الحضارة هذا الارتباط عمود القهر والاستبداد والاستغلال والتخلف، هذا الربط المُكبّل يزدهر فى المناطق الشرقية من العالم، وهى الأكثر تخلفاً واستبداداً وظلماً وقهراً وتعاسة. هناك من يقاوم لأن فك هذا الارتباط غير المشروع عقلياً ودينياً بين الروحى والدنيوى سوف ينجم عنه التحرر، والتعدد الفكرى وثراؤه وتنوعه، أى كسر وحدانية الفكرة التى تسيطر على المجتمعات المتخلفة والاستبدادية، مما سيؤدى بالتالى إلى تعدد سياسى ما دمت قد عددت التفكير الدينى، ونزعت قداسة الفكرة الواحدة عنه ولم تعد تجرم من يفكر فى الدين بشكل آخر سواء بقضايا ازدراء الأديان أو حبس المختلفين مع التفسير السائد وإهانتهم ومرمطتهم فى البلاد. تعدد الفكر الدينى وحريته هو ما يخشاه حكام الشمولية، ففك الارتباط بين الدينى والدنيوى، والسماح بتعددية التفسير والتأويل الدينى سوف يتبعه كسر القداسة التى يحظى بها السلطويون الدينيون المعتمدون مما سيكسر حتماً قداسة وحدانية السلطات المستبدة وادعاءات الإجماع. كسر الإجماع الدينى سيتبعه حتماً كسر وهم الإجماع السياسى. كيف؟.. سينتج عن ذلك التعدد الفكرى تعدد فى جماعات المصالح وتعدد فى القوى الاجتماعية وهو ما سيترتب عليه مطالبة بتمثيل حقيقى فى القرار لتمرير وحماية مصالح القوة الاجتماعية ضد الإنكار والاعتداء والاستلاب، ولتحقيق مزيد من التقدم وتخفيف الأعباء الواقعة عليها (سعى لحضارة)، وهذا لن يتأتى إلا بتمثيل شعبى فى هيئة نيابية وأيضاً بالامتثال لحكم القانون وطاعته فى مواجهة أى اعتداء من أى كان سواء كان محكوماً أم حاكماً. ولذلك لن يسعى الدينيون المستفيدون لتجديد الخطاب الدينى (الذى معناه وجوهره هو الفكر لا الخطبة). كما لن تسعى وتجِدّ سلطة مستبدة منفردة لتجديده إلا فى نقاط محددة تطلبها لتنفعها، فالتجديد يعنى طرح آراء مختلفة غير تلك التى صنعت الإرهاب والتخلف الفكرى والعنف، ولكن هذه الأفكار هى نفسها التى تنتج الاستبداد بمعنى قهر الأضعف واستلابه وفرض الإرادة عليه، لأنه الأقوى والأوحد، وهو معنى الإرهاب أيضاً! ونقد هذا سيعود إلى ذاك حتماً وبالضرورة كأعداء للحضارة. فهل تنوون حقيقة تجديده؟