فهم أردوغان الدرس فى السجن، فنسى الشعر الذى قاله ودخل بسببه السجن، الذى قال فيه كما ذكرنا فى المقال السابق «قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا، وهذا الجيش المقدس يحرس ديننا»، فأدار بعد ذلك ظهره للأمة الإسلامية والعربية، واتجه نحو الغرب، لتحقيق عضوية الاتحاد الأوروبى، ظناً منه أن هذا هو الطريق، على عكس سلفه العظيم أربكان، الذى كان يفهم الغرب جيداً ويعامله بالندية اللازمة. وكما تذكر مصادر عدة فى السياسة التركية «أراد أردوغان أن يدفع عن نفسه أى شبهة باستمرار الصلة الأيديولوجية مع أربكان وتياره الإسلامى، الذى أغضب المؤسسات العلمانية وأصحاب الهيمنة الغربية مرات عدة، فأعلن أن حزب العدالة والتنمية الجديد سيحافظ على أسس النظام الجمهورى، ولن يدخل فى مماحكات مع القوات المسلحة التركية، وقال «سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذى رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر، فى إطار القيم الإسلامية التى يؤمن بها 99% من مواطنى تركيا»، كان هذا تحولاً كبيراً فى السياسة. استطاع أردوغان -مع كل هذا التغيير فى التوجهات عن سلفه أربكان- أن يكسب تعاطف جمهور المسلمين بمن فى ذلك العرب، بعدة مواقف محسوبة ولكنها شفوية وغير محسومة، منها: موقفه فى دافوس عندما ترك المنتدى غضباً على تمييز شمعون بيريز فى مدة الخطاب بشأن الحديث عن فلسطين والمجازر التى ترتكبها إسرائيل فى حق فلسطين، خصوصاً غزة، وحصل أردوغان على جائزتين من مصدرين متضادين، جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، وجائزة القذافى لحقوق الإنسان. ياللعجب القذافى كان عنده جائزة لحقوق الإنسان وحصل عليها أردوغان، وكلتا الجائزتين سنة 2010. وقف إلى جانب المسلمين متهماً فرنسا بانتهاك حرية الأديان -وهذا صحيح وجيد، ويسر المسلمين خصوصاً فى الغرب- عندما طبقت فرنسا قانون حظر ارتداء النقاب للنساء المسلمات فى الأماكن العامة، ولكن أين الضغط الحقيقى على فرنسا؟ وأين تلك القوة التى تحافظ على حقوق المسلمين وتسعى لإعادة «وامعتصماه»؟ واستطاع أردوغان كذلك أن يكسب تعاطف المسلمين، عندما كان يُذكَّر اليهود بفضل المسلمين عليهم أيام سقوط الأندلس فى عام 1492، وقال لهم «إن الأتراك العثمانيين أنقذوا أجدادكم اليهود من مظالم الصليبيين فى الأندلس». هذه المواقف ولو شفوية، يطرب لها المتحمسون، خصوصاً من شباب المسلمين، ولكنها مواقف يناقضها العمل الجاد، وهذا يخالف قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ». ربما كان أردوغان هو المسئول الوحيد من بين حكام المسلمين الذى زار الصومال فى الأزمة الشديدة، مما يدل على شجاعته وكيف يكسب التعاطف والسمعة، وهو يدرك أن مشكلة الصومال مثل بقية المشاكل فى بلاد المسلمين تحتاج إلى نهضة وحكمة وعقل وحزم وتعاون حقيقى وتكامل، كما كان ينادى به أربكان، لا إلى مجرد الزيارات ولا إلى عواصف الحزم. أردوغان معروف بأنه يعرف كيف يخاطب الناس، تعلم ذلك من أستاذه أربكان، ولكنه يعلن فى الغالب ما يريد أن يسمعه الآخرون، أما أربكان فكان يقول ما يؤمن به، سخط الغرب عليه أم رضى، وهذا فرق شاسع بين الأستاذ وتلميذه. نجح أردوغان فى تفاهمه مع الغرب، أو وقوعه فى شراك بعض مخططاته، خاصة الأمريكية منها. فهم أردوغان الدرس، أى إنسان فى تركيا أو غيرها يعمل فى نفس التوجه والمسار الذى سار فيه أربكان، سيجد بوابات الغرب مغلقة أمامه، خوفاً على المصالح الغربية التى يخططون لها فى بلادنا، حرصاً على أمن إسرائيل فى الأساس. عندما خففت حكومة مندريس القيود والحظر، على بعض الأنشطة المحظورة، من قبيل السماح بإصدار بعض المطبوعات، وإعادة فتح بعض مدارس الأئمة والخطباء، وبدء تدريس الدين الإسلامى فى المدارس، ونظام الإفتاء، وتخفيف القيود على غطاء الرأس بالنسبة للرجال، وعودة الأذان، قام الجيش التركى بالانقلاب على حكومة مندريس 1960 وتم إعدامه، ولكن لم يكن من الممكن الانقلاب على الثقافة التركية الأصيلة قبل الأتاتوركية، ومنها الثقافة الإسلامية مهما بلغ الانحراف عنها مداه. كان من الواجب على أردوغان لو كان صادقاً مع نفسه، ووطنه وأمته ومواقفه، أن يسير بتركيا فى الاتجاه الصحيح نحو الأمة الإسلامية، لا أن يكون ساعداً أو مساعداً للغرب فى بعض مشروعاته، نجح أردوغان بمساعدة الغرب فى تحجيم تدخل الجيش فى السياسة ودوره فى الحياة ومستقبل تركيا بعد سنوات عديدة، فيها كر وفر واستعادة للحياة الديمقراطية، وأراد الإخوان أن يستعينوا بأمريكا، بعد تفاهم مع أردوغان، وهم فى الحكم لإقصاء الجيش فى مصر فى ظروف مختلفة تماماً، ولو لم تتنبه القوات المسلحة لهذا الأمر، لكانت مصر اليوم فى صراع وتدمير مثل سوريا والعراق وليبيا وغيرها من البلاد العربية، ولهذا مجال ومقال آخر بمشيئته تعالى. والله الموفق