(( في رحلة حج منذ عشر سنوات شاء الله أن ألتقي في المدينةالمنورة وفي المسجد النبوي الشريف برجب طيب أردوغان ، لم يكن الرجل معروفا للعالم وقتها ولكن بعض الشباب التركي الذي تعرفت عليهم حينئذ قدموني له بعد أن رووا لي سيرته ، وحين تكلم الرجل معي بعقل متقد وعاطفة دينية مشبوبة ونحن نجلس في موضع أهل الصفة بجوار قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أدركت أنني أمام شخصية فريدة سيذكرها التاريخ )) عندما نطق رئيس المحكمة الدستورية التركية بحكمه أيقنت أن التيار العلماني لا يزال يقاوم ما وسعه الجهد الحركة الإسلامية وأنه لن يتخلى عن علمانيته طالما في صدره بعض نفس يتردد ، كان الرئيس التركي عبد الله جول قد قدم مشروع قانون للبرلمان التركي يستهدف الحد من سلطات المؤسسة العسكرية .. وقد تضمن هذا القانون الحق في محاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنية وذلك فيما يتعلق بقضايا الأمن القومي ، وكانت بعض القيادات العسكرية قد تم اتهامها بالفساد وتهديد الأمن القومي والتخطيط للانقلاب على الحكومة التركية الحالية التي جاءت عبر انتخابات حرة وكان من المتعين محاكمتهم أمام المحاكم العسكرية بحسبهم من العسكريين إلا أن انحياز المؤسسة العسكرية وتبعية تلك المحاكم لقادة الجيش دعت عبد الله جول لتقديم هذا القانون الذي وافق عليه البرلمان إلا أن المحكمة الدستورية قضت بعدم دستوريته . وقد يبدو الأمر أمام الذي ينظر إلى ظاهر الصورة أن التجربة الإسلامية هناك آخذة في الانحسار وأن الجيش قبض على تلابيب الإسلاميين وكتم أنفاسهم .. ولكنني أرى العكس من ذلك تماما فهذا الحكم يؤكد أن تركيا لم تعد كما كانت وليس من السهل الآن أن يقوم قادة الجيش بالانقلاب على الحركة الإسلامية أو وضعها قيد الأغلال أو خلف السجون ، والذي يقرأ تقرير وزارة الخارجية الإسرائيلية عن الأزمة التي نشبت أظافرها في رقبة العلاقات بين تركيا وإسرائيل يدرك أن حكومة حزب العدالة والتنمية تدير ملفاتها السياسية الداخلية والخارجية بحرفية عالية . لا ريب أن ما حدث مؤخرا مع وضد الحكومة التركية صاحبة التوجه الإسلامي يجعلنا نطرح سؤالا تردد في أذهاننا وأحدث صداه في قلوبنا .. هل تعتبر تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا انقلابا على التجربة الإسلامية أم تصحيحا لمسارها وأولوياتها ؟. يقينا لا يمكن فهم أبعاد هذه التجربة وقراءتها قراءة صحيحة قبل معرفة ما جرى في تاريخ تركيا الحديث لا سيما في أعقاب الحرب العالمية الأولى حيث تم القضاء على الخلافة الإسلامية وخرجت إلى الوجود جمهورية تركيا الحديثة التي خلعت العمامة وارتدت البرنيطة الغربية وظلت تتبختر وسط الدول الأوروبية على أمل أن تقبلها أوروبا وتضمها إلى قارتها العلمانية ، وفجأة تنقلب الصورة التركية وتتعدل ملامحها بعض الشيء إذ على حين غرة يخرج من قلب الحركة الصوفية التركية ومن مجموعة طلاب النور الصوفيين رجل يدعى عدنان مندريس حيث يقوم بتأسيس الحزب الديمقراطي ليكتسح به الانتخابات ويصبح رئيسا لوزراء تركيا عام 1950 رغم أنف العلمانيين وبطريقة جعلت العالم الغربي المستغرق في علمانيته يقف حائرا وقتها وقد فغر فاه ... وكأنه يقول أليس لهذا الدين نهاية .. ألا يموت الإسلام أبدا ؟!! . ورغم أن عدنان مندريس لم تكن له منهجية أو رؤية إسلامية واضحة فقط مجرد مشاعر دينية مشبوبة إلا أنه وبجرأة اقتحامية قام بالقضاء على بعض القيود التي كانت تحول دون فتح المدارس الدينية كما سمح ببعض الحرية المتعلقة بالآذان وبالنسك التعبدية . ولم يستسغ الجيش هذه الجرأة التي لم يعهدها في أحد طوال عهد مصطفى أتاتورك وخليفته أينونو فما كان من الجيش عام 1960 إلا أن قام بالطغيان على المدنية التركية ووأد تجربتها الإصلاحية وأطاح بحكم عدنان مندريس .. والحقيقة أنه لم يطح بالحكم فقط ولكنه أطاح أيضا برأس مندريس عندما أعدمه وأعدم اثنين من وزرائه ... وكأن قدر التجربة الإسلامية أن لا تولد إلا من تحت أعواد المشانق . ومن قلب حركة طلاب النور خرج تلميذ مندريس المهندس نجم الدين أربكان مهندس المحركات ليقوم بتشغيل محرك الحركة الإسلامية بحزب جديد أنشأه ليعمق التجربة ويحدد أطرها ، وكان من الطبيعي وسط شعب لم تشوهه العلمانية أو الغربانية ( من الغرب أو الغربان اختر أيهما ) أن يحصل أربكان على شعبية كبيرة مكنته من الفوز بنسبة عالية في الانتخابات التركية وبذلك أصبح أربكان عام 1996 رئيسا لوزراء تركيا في حكومة ائتلافية مع السيدة تانسو تشلر .. وكانت أولويات المهندس أربكان الإسلامية هي ذاتها الأولويات التقليدية للحركة الإسلامية فقد اهتم بكل المظاهر الإسلامية من حجاب وصلاة وعبادات وتعمير للمساجد وإعادة الدراسة الدينية للمدارس وإلغاء البغاء الذي يمارس رسميا في تركيا ، وكان يرى أن تركيا ينبغي أن تنفصم عن الغرب وتعود مرة أخرى للشرق فهي أي تركيا في رأيه ستكون ذيلا في الغرب ولكنها ستكون رأسا في الشرق ومن الخير لتركيا أن تكون زعيمة الشرق من أن تكون خادمة الغرب ووصيفته المطيعة ، لذلك سعى أربكان إلى إنشاء مجموعة الدول الثمانية حيث اختار أقوى الدول الإسلامية وأكبرها وتفاوض معها لإنشاء تحالف اقتصادي وسياسي يرفع من شأن الجميع ، وكانت نظرته لتركيا تقوم على تحويلها إلى دولة صناعية كبرى حيث كان حلمه الأكبر أن تصبح تركيا مصنع المسلمين ، وكان قد أنشأ بالفعل وهو في شرخ الشباب مع مائة من المهندسين أكبر مصنع للمحركات في الشرق الأوسط . كانت كثير من هذه الأولويات تختلف عن أجندة المؤسسة العسكرية الحامية للعلمانية لذلك اعتبر الجيش أن أربكان خرج من علمانية الدولة فقام بالاصطدام به وعزله عام 1997وإلى المحاكم سيق أربكان وولده رجب أردوغان حيث تم حبسهما لأشهر وعزلهما سياسيا .. كانت مواجهة حزب الرفاة الإسلامي للدولة العلمانية وللجيش حامي حمى ديار العلمانية والعلمانيين مواجهة تقليدية تقوم على إلقاء حجر في وجه العلمانية ثم انتظار رد الفعل الذي سيحدث دون أي تخطيط لكيفية المواجهة وسبلها .. ولكن أردوغان وصديقة جول ورفقة من الشباب الذي شب عن الطوق في حضن أبيهم ومعلمهم أربكان ضاق بهم المقام في حزب الرفاة ووجدوا أنه من الأفضل أن تعيد الحركة الإسلامية ترتيب الأولويات بأجندة مغايرة للأجندة التقليدية حيث وضعوا في الاعتبار ترتيب هذه الأولويات من حيث إمكانية التطبيق في الواقع العلماني وفقا لسياسة خطة بخطوة أو كما قال لي أردوغان فخرجوا من حزب الرفاة وأسسوا حزب العدالة والتنمية وقدموا أنفسهم للرأي العام بحسب أنهم سيحافظون على العلمانية وأنهم يختلفون عن حزب أربكان اختلافا جذريا . طرح أردوغان أجندته التي تتلخص في السعي لضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وليس الشرق الإسلامي وتحويل تركيا إلى منطقة تجارة حرة حيث ينتعش الاقتصاد والتغاضي عن تحويلها إلى قلعة صناعية وقال إن الحزب لا يتوقف أمام المظاهر الإسلامية كالحجاب ولكن أولوياته تسعى إلى استجلاب الحرية والديمقراطية الحقيقية إلى تركيا ومن خلال الحرية تستطيع المرأة أن ترتدي ما يعن لها من ثياب ، كما وعد بعدم إصدار قانون يمنع البغاء وقال إن منع البغاء يكون بالبحث عن جذور المشكلة اجتماعيا وتوفير فرص عمل شريفة لمن يمارسن البغاء ، كما ناقش في أجندته ضرورة تقليص سلطات الجيش لتصبح وظيفة الجيش مطابقة لوظيفته في البلدان الأوروبية .. لم يتوقف أردوغان عند التسميات والأسماء ، لم يهتم في وسط الجو المحتقن بالغربانية والمتربص للإسلاميين برفع الشعار الإسلامي ولكنه بحث عن تطبيق مضمونه وقيمته ، ولم يأنف من أن يطلق على حزبه بأنه "راعي العلمانية" وأن يضع صورة أتاتورك على مدخل الحزب .. ولكنه اهتم بالمضمون الذي يقدمه ، وطبعا نجح أردوغان وحزبه في الانتخابات نجاحا غير مسبوق . وطوال عدة سنوات أنجز عدة إصلاحات دعمت الاقتصاد التركي فتراجعت نسبة التضخم إلى حد كبير، وزادت قيمة الليرة التركية واستعادت قوتها الشرائية .. كما ارتفع حجم التصدير السنوي من 36 مليار دولار إلى أكثر من 95مليار دولار . كما أنجزت حكومة أردوغان "مشروع النفق تحت مياه مضيق البوسفور" في إسطنبول الذي يربط آسيا بأوروبا عن طريق سكة حديد وعن طريق السيارات، وأنجز ما يقارب مائة سد ما بين كبير ومتوسط وصغير. وأوصل الماء إلى آلاف القرى المحرومة منه. وقفت هذه الإصلاحات الاقتصادية جنبا لجنب مع الضمان الصحي وخفض أسعار الدواء والسلع.. فضلا عن محاربة الفساد والمفسدين إذ منع الحزب أوجه النهب والسلب التي كانت متفشية في كل المرافق، ووضع اليد على أموال الذين ثبتت ضدهم أدلة النهب من العائلات الغنية التي نهبت البنوك الحكومية . وأمام هذه الانجازات زادت شعبية حزب العدالة والتنمية زيادة كبيرة فها هي القيم الإسلامية يتم تطبيقها على أرض الواقع وبها تحولت تركيا من حيث التطبيق إلى أمة حضارية تطبق " النظافة من الإيمان " كما أصبحت أمة الإتقان " إن الله يحب إذا عمل أحكم عملا أن يتقنه " وفهمت على أرض الواقع أنها أمة " سورة الحديد " فأصبحت مصانعها أرضا للإبداع التقني والتنفيذي ... وفي سابقة لم تحدث في تركيا من قبل تم حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية للعاملات في البغاء الأمر الذي أدى إلى اعتزال سبعين بالمائة منهن حتى الآن . وإذ أصبحت شعبية أردوغان وحزبه في عنان السماء كان له أن يفرض كلمته فالحاكم الذي يستند إلى شعبه بعد الله سبحانه وتعالى لا تستطيع قوة مهما كانت أن تهدده أو تقوّض أركانه ، وعندما آن لأردوغان أن يقلم أظافر المؤسسة العسكرية ويقلل من هيمنتها قام بتبديل قانون (اللجنة العليا للأمن الوطني) إذ كانت هذه اللجنة مشكلة من المدنيين والعسكريين إلا أن العسكر سيطروا عليها .. فكان أن اعتبر القانون الجديد قرارات اللجنة استشارية وليست ملزمة للحكومة .. كما استبدل أردوغان السكرتير العام لهذه اللجنة من جنرال إلى مدني . كانت هذه تجربة إسلامية متكاملة لم تتوقف عند الأسماء والشعارات بل بحثت عن حلول غير تقليدية لمواجهة التعسف الذي يمارسه الجيش، لذلك كان من الطبيعي وبرغم الحكم الذي صدر من المحكمة الدستورية أن نشد على يد أردوغان وصاحبه جول ونصيح بصوت مرتفع ونقول .. جول وجول وجوووول . [email protected]