فى المساء وأثناء التمشية وسط البلد قريباً من محطة الرمل فى الإسكندرية، توقفت مستغرباً من منظر ما يشبه العائلة الصغيرة تجلس عند ناصية شارع. لم أتبين سوى ملامح رجل مسن، ولعل قسوة العوز وشحوب وجهه وهيئته جعلتنى أراه مسناً. إلى جواره على الأرض طفلان فى ملابس مهترئة وقذرة لأقصى درجة، إضافة إلى كومة من الرِّثة جوارهم. الأغرب أن أغلب الناس كانوا يسيرون باعتياد على منظر بدا لهم مألوفاً، بل كان البعض يبتعد عنهم مسرعاً فى نصف دائرة أو ينظر بامتعاض وقرف. * انتبهت فى القاهرة فى السنوات الأخيرة لوجود هؤلاء المشردين الصغار فى طرقاتها نهاراً، ثم يفترشون الأماكن المظلمة من زوايا المحلات ليلاً ليستلقوا فيها حتى الصباح. كان تعجبى -قبل سنوات من رؤية هذا الكم الكبير من الأطفال الذين بلا مأوى- غريباً لأصدقائى الذين ألفوا الأمر، فظاهرة التسول قديمة ومعروفة وغالباً يمتهنها مسنون وعجائز، وإن كانوا فى الأصل يكثرون فى الأماكن القريبة من المساجد والأضرحة ويزدادون عدداً فى المناسبات الدينية ويبدون فى ملابس رثة وليس فى قذارة ووسخ. * فى زيارتى الأخيرة، قبل شهور قليلة، لميدان الحسين، لم أرَ فى حياتى مثل هذا الكم من التسول المنظم من عائلات أو ما يشبه عائلات، فما إن أحسنت إلى امرأة تحمل رضيعاً حتى وجدتها تشير بسبابتها لطفلة وطفل، وجدتهما أمامى قبل أن تطرف عينى. تكرر الأمر بعد فترة قصيرة من غيرها. جلست أتأمل طريقة التسول الجديدة ولم أستطع الاستمتاع لا بشاى ولا بقهوة ولا حتى بحديث ولو متقطع مع الأصدقاء، فالباعة يلحون ببرمجة منظمة وبحيل مبتكرة، يحاولون التفنن فى إقناعك بشراء أشياء لن تحتاج إليها أبداً، فتشعر كأنك جلست وسط سوق لا فى مقهى لتشرب الشاى أو تقرأ جريدة أو تتأمل، ناهيك عن أن تتكلم! فى الطريق إلى وسط البلد، كلما كان التاكسى يتوقف فى إشارة، كنت أجد هذا المسن الذى يتسول وتلك العجوز التى تستعطف وهذه الطفلة أو الطفل الذى يبيع المناديل. يمدون أياديهم من أى فتحة فى السيارة بشكل يثير الأسى. المحزن أكثر هو الاعتياد على هذا المنظر غير الإنسانى لتكراره وكثافته وانسحاق الناس فى عالمهم الداخلى وراء «لقمة العيش». الأسئلة التى راودتنى عن التشرد والتسول تتعقد وأنا أستمع للمرتبات المخجلة التى يتقاضاها المدرسون والموظفون والعمال وكل طوائف الشعب المسحوقة، حتى أصبح البطل فعلاً هو من يستطيع أن يمر عليه الشهر دون ديون ودون منغصات الالتزامات المزمنة. * سياسات الدولة اجتماعياً أصبحت كارثية وبلا حلول. وأصبح الوضع الاجتماعى العام يعتمد على المبادرات الأهلية أكثر من كونه استراتيجية أساسية من الدولة لحماية المجتمع من الداخل. أصبح الخارج البعيد أهم من المظهر القريب، ويمكن ببساطة وكمثال أن تتأمل شكل وزارة الشئون الاجتماعية وميزانيتها وشكل موظفيها مقابل وزارة الخارجية أو وزارة الدفاع! * صحيح أن التسول ظاهرة عالمية وموجودة فى أرقى المجتمعات، لكن فى حدود، والحلول لن تكون فى يد المحسنين، بل فى يد من يحسن إدارة المجتمع، ليس بالكلام وإنما بالفعل وبتوفير العمل لمن يريد العمل ومن يقدر عليه، ومكافأة المنجز بدخل كاف يعيش الفرد به حياة كريمة. لا أتمنى أن يتحول فى المستقبل السخط فى المجتمع ومن المجتمع إلى إرهاب مستتر، من هؤلاء المحبطين المقهورين المنسيين، وإلى قنابل موقوتة لن يحلها تعاطف الناس وإحسانهم المؤقت ولن يحلها إزاحة التسول تدريجياً من مكان إلى آخر!