الصراعات المسلحة المنتشرة فى بلاد العرب تنخر فى أساس نظامهم الإقليمى. الصراعات فى سورياوالعراق وليبيا واليمن أدخلت هذه البلاد فى مرحلة من الضياع والفشل، وهددت بقاء واستقرار باقى الدول العربية، لذا لزم على من بقى من دول العرب التحرك لخدمة مصالحه الأمنية أولاً، وإنقاذاً لدول طحنتها موجة الفوضى العربية ثانياً. خاض العرب صراعات كثيرة فيما مضى، ولكنها المرة الأولى التى يستخدم فيها السلاح بهذه الكثافة فى إدارة صراعاتهم. الصراعات والتهديدات المسلحة لا يمكن مواجهتها بأساليب السياسة وحدها، وما لم يتم تعزيز إرادة العرب بقوة عسكرية مناسبة لما أخذهم أحد على محمل الجد. دعوة الرئيس السيسى لتشكيل قوة عربية مشتركة، وتبنى القمة العربية هذه الدعوة هى خطوة سليمة طال انتظارها. تبنى القمة العربية للقرار يسبغ شرعية عربية على القوة المزمع إنشاؤها، حتى لو لم تشارك الدول العربية كلها فى تشكيلها. القوة العربية المشتركة هى مصلحة حيوية لدول انفجرت فى جوارها الإقليمى القريب جماعات الإرهاب، وصراعات الطوائف، وتمدد فيها نفوذ إيران التى يتفاخر قادتها علناً بأنهم باتوا يحكمون أربع عواصم عربية. هذا هو الحال فى الجناح الآسيوى الشرقى من الوطن العربى. أهل المغرب العربى أقل تضرراً من صراعات المشرق، ويخشون أن يؤدى تورطهم فيها لنقلها إلى بلادهم. الرابطة الملكية تجعل المملكة المغربية استثناء، فالأذى الذى يلحق بممالك الشرق تصل آثاره إلى مملكة المغرب رغم بعد المسافات. دول المشرق العربى ليست موحدة حول تشخيصها لطبيعة المخاطر التى تتهدد المنطقة، بل إن بعضها قد يرى القوة العربية المشتركة عملاً موجهاً ضده. هكذا هو حال سوريا الواقعة تحت النفوذ الإيرانى، ولولا «داعش» وسيطرته على قسم كبير من العراق لكان هذا هو حال حكومة العراق أيضاً. أما لبنان فهو منقسم كعادته. اختلاف المواقف والتقديرات لا يمنع اتخاذ قرار عربى بتأسيس القوة المشتركة، فالرابطة العربية ما زالت حية فاعلة، وما زالت وحدة العرب مفضلة على فرقتهم، وما زال عمل العرب المشترك هدفاً لا يسهل على عربى الوقوف فى وجهه. الاتفاق على المبادئ السياسية والأخلاقية الكبرى الحاكمة للعلاقات العربية يسمح للعرب بالاتفاق على الخطوات المبدئية الأولى فى الاتجاه المطلوب، فيما الاختلاف فيما وراء ذلك لا يسمح لهم بالتقدم كثيراً فى الاتجاه المطلوب، ومن هنا نشأت فجوة الالتزام العربية سيئة السمعة، أى الفجوة بين ما يتفق عليه العرب وما يقومون بالالتزام بتنفيذه فعلاً. الدعم الأكيد للقوة العربية المشتركة يأتى من الخليج ومصر ومعهما الأردن، فيما تقدم المملكة المغربية مساندة قوية، والخيرة فيمن حضر. الإجماع العربى على تأسيس القوة المشتركة يمنحها شرعية عربية لها قيمتها، فيما انتظار مشاركة كل العرب فيها يحيلها إلى رف ملفات العمل العربى المنسية. مشكلة العرب المزمنة هى أن بينهم من المشتركات فى مجالات الهوية والثقافة ما يجبرهم على الجلوس معاً، فيما الاختلافات بين ظروف دولهم تدفعهم للسير منفردين. حل هذه المعضلة يكمن فى الحرص على مواصلة الجلوس معاً، فيما تواصل الدول المتشابهة فى الظروف والتوجهات السير مع بعضها أيضاً، حتى لو ظل الباقون جالسين فى أماكنهم، أو حتى قرروا السير فى اتجاه آخر. لا توجد فى العالم دولتان متشابهتان تمام التشابه فى الظروف والأولويات وتوجهات السياسة الخارجية، بما فى ذلك الدول العربية الواقفة بقوة وراء تشكيل القوة العربية المشتركة، والتحالفات الناجحة هى تلك التى تحقق مصالح أطرافها رغم اختلافاتهم، وليس رغماً عنهم. يتشكل الحلف العسكرى بين الدول لتحقيق هدف محدد لينفض من بعده، وهكذا كان تحالف السوفيت والأمريكيين وآخرين غيرهم من أجل هزيمة النازية، ومثله التحالف الدولى الذى أنهى احتلال عراق صدام حسين للكويت. أما التحالف الدولى طويل الأمد فيتشكل من دول متوافقة أيديولوجياً واستراتيجياً لتحقيق أهداف بعيدة المدى وضد خصم محدد، كما هو الحال مع حلف الناتو. بين هذين النموذجين تقع القوة العربية المشتركة. فالتهديدات التى تواجه دول العرب متنوعة ومتواصلة، وتقتضى استمرار التعاون العسكرى فيما وراء تحقيق المهمة المباشرة، فإذا كان حظ اليمن قدر له أن يكون البلد الذى يشهد التطبيق الأول للعمل العسكرى العربى المشترك فى أحدث تجلياته، فأمام العرب تحديات أخرى كثيرة تنتظر دورها فيما بعد انتهاء المهمة اليمنية. فى الوقت ذاته، فإن التهديدات التى تواجه بلاد العرب ليست شديدة التحديد كالتهديد السوفيتى للعالم الغربى، ولا بلاد العرب متوافقة فيما بينها بقدر توافق كتلة الدول الغربية التى مثلت فى الوقت نفسه كتلة أيديولوجية ومصلحة اقتصادية ونمطاً محدداً من أنظمة الحكم. أما الأمر الأكثر خطورة وجدية من كل هذا فهو أن التهديدات الأمنية التى تواجه البلاد العربية هى خليط من تهديدات الداخل والخارج، وليست تهديداً خارجياً خالصاً كما كان التهديد السوفيتى لأوروبا الغربية. فالتهديدات الأمنية التى تواجه دول العرب لها وجهها الداخلى الصريح، كما هو الحال فى سورياوالعراق وليبيا واليمن، ولها وجهها الخارجى البارز المتمثل فى دخول قوى إقليمية، خاصة إيران، على خط هذه ا لصراعات لتحقيق مصالحها القومية الخاصة. مزيج الداخل والخارج يختلف من حالة إلى أخرى، وهو أمر يقتضى تشاوراً دقيقاً، وتعاملاً متفرداً، ومرونة فى توظيف وسائل وأدوات العمل لتلائم كل حالة على حدة، وكل هذه الاعتبارات تمنع عرب التوافق من تكوين تحالف عسكرى له من الديمومة والاستقرار والهياكل المؤسسية ما يشبه حلف الناتو. القوة العربية المشتركة هى تحالف للدول متشابهة التوجهات والراغبة فى التعاون أكثر منه تحالفاً عربياً شاملاً، وفى إدراك هذه الحقيقة ما يسهل نجاحه ويضمنه.