انتهت ساعات العمل الرسمية منذ دقائق، دعاها لاحتساء القهوة في المكان الذي يحبانه كثيرًا ولا يعلم غيرهما أمره.. ترجلا في شوارع وسط المدينة الساحرة بصخبها وعمرانها ورائحة الشوارع الخديوية حتى وصلا إلى وجهتهما.. لا أحد يجلس على مائدتهما اللذين اختاراها للقاءاتهما، سحب لها كُرسيًّا وجلس قبالتها. قبل الوصول إلى المائدة، أشار إلى النادل وطلب منه إحضار فنجانين من القهوة (نوع معين يعشقانه ويضحكان كثيرًا عند تذكر أول فنجانين احتسياه في المكان).. إلى جوار مائدتهما سكنت عجوز في ركن بعيد هادئ تدخن سيجارة وتحتسي أيضًا قهوة ووضعت معطفها على الكرسي المقابل، شاردة في جريدة أجنبية وبدا عليها عدم الاكتراث بالقراءة.. هناك خطب ما يؤرقها، بينما راح طفل يلهو في المقهى غير عابئ بانزعاج المحيطين. استراح في جلسته والتقت عينيه في عينيها.. "لحظتها" تسمّر النادل بفناجينه في الطريق إلى مائدتهما.. العجوز لم تُكمِل ارتداء المعطف للمغادرة فقط امتدت يدها إليه في وضع راقصة باليه تأخذ بيد مشاركها في العرض حيث طوّحت بيدها الأخرى خلف ظهرها.. ابتسامة ارتسمت على وجنتي الطفل الحمراوين بفعل الطقس البارد ولا تفارقه ولا يبرح مكانه بين الموائد، والكرة البلاستيكية التي ركلها منذ قليل أخذت وضعًا في الهواء كبالون دون حراك. "سكن الكون منصتًا". قال لها حينها: هل تعلمين أنك الحياة لي.. الهواء الذي أتنفس.. الشمس التي أشرقت دنياي فلم يعد للظلمة مكان فيها.. الحضن الدافئ في ليل بارد.. الفضاء الواسع المليء بألوان الطيف الزاهية الضاحكة.. هل تعلمين أن كل شيء كنت أراه قديمًا لم يعد كما كان.. سار أجمل.. الكلمات أضحت أكثر وضوحًا.. المعاني أشعر بها كما كنت أحلم يومًا.. كنت أسمعهم يقولون إن الحياة سار لها معنى.. أنت الآن الحياة وأنتِ معناها. شعر بأصابع يدها الناعمة على ساعده تنبهه: فيم سرحت؟ أفاق وأشاح بناظريه بعيدًا عن عينيها.. وضع النادل الفنجانين على المائدة مع قطعتي "جاتوه"، وارتدت العجوز معطفها ودفنت سيجارتها وطبّقت جريدتها في يدها،.. التقط الطفل كرته وعنفه والده ما جعله يبكي ويزعج صوته المحيطين أيضًا. تحدثا قليلًا دون أن ينظر إلى الساحرتين ولم تمر لحظات حتى التقت عينيه ثانية بعينيها، فسكنت العجوز وأوراق جريدتها لم تتحرك بفعل الرياح القادمة من الباب الذي فتحته توًا، وتجمدت دموع الطفل الباكي على وجنتيه.. وكوب العصير تسمّر على شفتي جميلة كانت تجلس أمامهما لا يعلو ولا ينخفض، والأصوات كُلّها سكنت وأتاهما في سكون الكون وإنصاته لهما "صوت الكمان".