- مجلس النواب هو المؤسسة الأقرب ارتباطاً بالجمهور وانفتاحاً عليه، فهو تعبير مباشر عن إرادة واختيار الشعب، كما أن مناقشاته على تنوعها تدور فى مناخ من الشفافية والعلنية على الأقل إذا قورن بالسلطة التنفيذية، كما أن البرلمان هو المؤسسة الوحيدة فى نظام الحكم التى تجمع بين وظيفتين رئيسيتين: فهو هيكل نيابى يعبر عن مشاعر وآراء المواطنين، كما أنه من الناحية الأخرى آلية تشريعية تصنع القوانين التى تحكم الدولة بأسرها، ولعل اجتماع هاتين الوظيفتين فى البرلمان هو مصدر أهميته الفريدة بين مؤسسات النظام الديمقراطى. - ولأن البرلمانات بهذه الأهمية فإن القواعد التى تشكل النظام الداخلى لها وكيفية مباشرة أعضائها لوظائفهم وانعكاسات كل ذلك على السلطات الأخرى وحقوق المواطنين، يكون لها من الأهمية القصوى بما يكون معه الحرص على أن تأتى هذه القواعد نموذجاً لتوافقها مع الدستور وحرصها على المساواة وحرية التعبير والتعاون بين البرلمان وسائر سلطات الدولة، والنظام الداخلى للمؤسسة التشريعية من حيث أنه ينظم سير مؤسسة دستورية ذات أهمية خاصة فى النظام السياسى تكون له تأثيرات سياسية كبرى، حتى إن بعض الفقهاء الدستوريين الكلاسيكيين اعتبروه بسبب ذلك: «دستوراً بشكل آخر وامتداداً له أو تفسيراً»، إذ إنه بطبيعته الدستورية يجاوز البعد التنظيمى ويفوقه، فما ينتظم به علاقات المجلس التشريعى بالسلطة التنفيذية لا يمكن أن يكون مجرد قرارات تنظيمية بالمعنى التقليدى، وإنما تكون ذات طبيعة دستورية. - وتأسيساً على ذلك وبالرغم من النص فى معظم الدساتير على ضرورة أن تستقل البرلمانات بوضع لوائحها الداخلية باستقلال تام، ومنها دستور مصر 2014 فى المادة 118، وذلك ترسيخاً لمبدأ فصل السلطات، فإن كثيراً من هذه الدساتير قد قيدت هذه السيادة وهذا الاستقلال بوجوب إخضاع اللائحة لمراقبة دستوريتها، ومن الأمثلة الصريحة دستور 1958 فى فرنسا فقد ورد فى نص المادة 61 منه على أنه: (يجب أن تحال إلى المجلس الدستورى القوانين الأساسية قبل صدورها، وكذلك النظام الداخلى لمجلسى البرلمان قبل بدء نفاذها، ويصدر المجلس الدستورى حكماً بشأن مطابقتها للدستور، وتحقيقاً لنفس الغاية يجوز أن يحيل رئيس الجمهورية، أو رئيس مجلس الوزراء، أو رئيس الجمعية الوطنية، أو رئيس مجلس الشيوخ، أو ستون نائباً من نواب الجمعية الوطنية، أو ستون عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ، القوانين البرلمانية إلى المجلس الدستورى قبل صدورها، وفى الحالات المنصوص عليها فى الفقرتين السابقتين يجب أن يصدر المجلس الدستورى حكماً فى غضون شهر واحد، لكن إذا كان الأمر عاجلاً تخفض الفترة إلى ثمانية أيام، بناء على طلب الحكومة، وفى هذه الحالات تؤدى إحالة القوانين إلى المجلس الدستورى إلى توقف المهلة الزمنية المحددة لصدورها) والرقابة على دستورية اللوائح البرلمانية طبقاً لهذا النص هى: رقابة وجوبية تباشر عليها قبل تطبيقها ولا يجوز تطبيقها قبل الفصل فى دستوريتها، وإذا قضى بعدم دستورية نص أو أكثر تعين أن تعيد صياغتها الجمعية التى أصدرتها سواء كانت الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ آخذة فى اعتبارها مضمون القرار الصادر بعدم الدستورية، وسواء أبطل المجلس الدستورى اللائحة البرلمانية أو وجه البرلمان إلى طرائق تطبيقها فإنهم يتقيدون بقرار المجلس رغم إيمانهم بأن اللوائح البرلمانية لا تنظم غير شئونهم الداخلية التى يفترض استقلالهم بها. - والرجوع إلى القضاء الدستورى فى شأن اللوائح البرلمانية، فصلاً فى دستوريتها، يدل على حرصه -وفى إطار سياسته القضائية- على صون حقوق البرلمانيين فى مواجهة الحكومة وضمان امتيازاتهم قِبلها، كما أنه يمنع محاولة البرلمانيين تخويل أنفسهم مزايا حرمهم الدستور منها، أو تقرير اختصاص لهم يجاوز الحدود التى أذن الدستور لهم بها كتوسيعهم من اختصاص لجان التحقيق والمراقبة البرلمانية، أو مساءلتهم الحكومة فى غير الأحوال المنصوص عليها فى الدستور. - ومن أهم ما تحققه المراجعة الدستورية للنظام الداخلى لمجلس النواب قبل تطبيقها، هو ضمان ألا تتعارض قواعدها مع حرية التعبير عن الرأى والفكر لجميع الأعضاء، ومع تنوع الاتجاهات والانتماءات السياسية والحزبية داخل البرلمان، فإن هذا التنوع، حتى مع وجود أغلبية برلمانية لاتجاه معين، لا ينتقص من الحق الطبيعى فى أن يكون للجميع، وعلى قدر المساواة، حق إبداء الرأى والمشاركة فى اللجان النوعية والخاصة داخل المجلس، وحق الاشتراك فى قيادة البرلمان ولجانه. - هذا وإن وضع اللائحة الداخلية يجب ألا يكون معقداً إلى درجة يصبح فهمها والتعامل معها أمراً يصعب على الكثيرين من المتخصصين وأهل الخبرة أنفسهم، وهو أمر يتناقض مع الوظيفة المفترض للائحة ودورها فى التيسير على العضو وتمكينه من ممارسة مهامه، فلا يصبح أمامه سوى أحد طريقين: إما الاكتفاء بالحد الأدنى من دراسة واستيعاب اللائحة للوفاء بالمتطلبات الشكلية للعضوية (مثل نظام الحضور، وطريقة التصويت)، أو بذل جهد كبير فى التكيف مع التعقيدات اللائحية، مستخدماً فى ذلك قدرات خاصة (مهنية أو ذاتية أو حزبية) وهى مسألة لا تتوافر للكافة، أو معتمداً على الأمانة العامة للبرلمان، الأمر الذى يزيد من الاعتماد على الفنيين وربما يُحوّل العضو إلى ممثل للأدوار وليس فاعلاً مستقلاً.