ما حدث يوم الجمعة 12 أكتوبر فى ميدان التحرير جدير بالدراسة، لأنه يؤكد بما لايدع مجالاً للشك أنه لا يمكن اختزال مصر فى تيار سياسى واحد، وأنه مهما كان حجم جماعة الإخوان المسلمين، ومهما كانت درجة تماسكها وقدرتها على الحشد، ومهما كانت سطوتها على أعضائها إلى الدرجة التى تستطيع معها أن تدفعهم إلى الاعتداء على الآخرين لمعارضتهم الرئيس محمد مرسى وتجمعهم لمحاسبته على نتائج وعده الانتخابى بحل خمس مشاكل رئيسية كبرى خلال المائة يوم الأولى من حكمه، مهما كان ذلك كله فإنه لا يكفى لكى تنفرد جماعة الإخوان المسلمين بالساحة السياسية أو أن تمنع القوى السياسية الأخرى من الوجود فى الساحة والتعبير عن رأيها، ورغم أن هذه القوى لم تكن تتحسب لنزول الإخوان إلى الميدان فى نفس اليوم فلم تخطط لحشد جماهيرى كبير كما فعل الإخوان الذين استدعوا أعضاءهم من المحافظات، إلا أن هذه القوى نجحت على مرأى ومسمع من الجميع وعلى شاشات التليفزيون أن تصمد لهجوم الإخوان عليهم وأن تستوعب الضربة الأولى وتعيد تنظيم صفوفها واستفادت من المسيرات التى انضمت بعد صلاة الجمعة إلى الميدان وقاومت قدر استطاعتها، وكسبت الرأى العام إلى صفها عندما شاهد ملايين المصريين على شاشات التليفزيون عملية تحطيم منصة القوى السياسية والأشخاص الذين كانوا يهتفون ويهللون وهم يحتلون منصة أخرى هى على الأرجح منصة حزب الوفد وكان واضحاً من لحاهم أنهم ينتمون إلى التيار الإسلامى. واضطرت جماعة الإخوان المسلمين فى النهاية إلى إصدار تعليمات لأعضائها بالانسحاب من الميدان والتحرك إلى دار القضاء العالى، وتضاربت تصريحات قادة الجماعة بعد ذلك حول وجودهم فى الميدان من عدمه، والدرس الأساسى المستفاد من هذا كله أنه مهما كانت قوة أى تنظيم سياسى فإنه لا يستطيع إبعاد الآخرين عن النشاط السياسى، وأنه لا يمكن حبس مصر ساعة واحدة، كما قال الشاعر أحمد فؤاد نجم، وهو ما أكدته أيضاً مظاهرات 19أكتوبر، وإذا كان النظام السابق قد نجح فى السيطرة على التعددية الحزبية فإن ذلك تم استناداً إلى سنوات طويلة من القمع تم خلالها استبعاد السياسة من المجتمع، استبعاد الشباب من أى نشاط سياسى وتجفيف المنابع أمام الحركة السياسية، أما مصر الآن فإنها فى حالة فوران بعد انهيار النظام السلطوى وانهيار أجهزة القمع وفتح الآفاق واسعة أمام الأجيال الجديدة لممارسة العمل السياسى، وتشكلت بالفعل عشرات الأحزاب السياسية ومئات النقابات المستقلة واتسع نطاق المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وانتزع المصريون حقهم فى التظاهر السلمى والإضراب بالدم ودفعوا ثمناً غالياً أكثر من ألف شهيد وعشرة آلاف مصاب، ولن تعود مصر إلى الحبس مرة أخرى، خاصة أن العملية السياسية الجارية حالياً تؤكد أنه خلال سنوات قليلة سوف يتغير ميزان القوى السياسية فى مصر وستنمو الأحزاب الليبرالية والأحزاب اليسارية والقومية فى مناخ الحريات ومن واقع الخبرات فى العمل الجماعى التى تنضج يوماً بعد الآخر، بينما يواجه الإخوان المسلمون مشاكل عديدة تحول دون نموهم رغم أنهم فى السلطة وسوف يشكلون على الأرجح الحكومة الجديدة بعد انتخابات مجلس الشعب القادمة وسوف تواجههم مشكلة أى حزب حاكم لا يستطيع أن يحظى برضا الناس لأنه لا يمكن حل مشاكل المجتمع المصرى فى سنوات قليلة، كما أن شباب الجماعة لن يقبلوا أن يستدعوا كل مرة لضرب خصوم الجماعة؛ لأن هؤلاء الشباب انضموا إلى الجماعة بسبب تدينهم ولو قبلوا مرة أو اثنتين مواجهة خصوم الجماعة بالعنف فإنهم سوف يتساءلون ساعتها: لماذا نُستخدم فى مواجهات عنيفة، خاصة أن المناخ السياسى ينفتح نحو الحوار والمناقشات المفتوحة وإذا لم تكن قادراً على المواجهة السياسية من خلال الحوار الحر، فإنك لا تستطيع أن تفرض رأيك بالعنف، وإذا كانت الجماعة قد حققت تماسكاً كبيراً وهى تحت الحصار تعمل فى الخفاء، فإنها عندما تندمج فى العملية السياسية السلمية سوف تتعدد الآراء داخلها وسيكون من بين قياداتها وأعضائها من يدعو إلى الانفتاح على الآخرين مثل الدكتور حلمى الجزار والدكتور محمد البلتاجى فى مواجهة آخرين يتصورون أن قوة الجماعة تعطيها الحق فى الاستعلاء على الآخرين وقمعهم مثل الأستاذ صبحى صالح والدكتور أحمد أبوبركة، والخلاصة أن التطورات السياسية الجارية فى مصر حالياً تؤكد أن مصر فى طريقها نحو مزيد من التعددية والتوازن فى الحياة السياسية، ولم يعد ممكناً حبس مصر مرة أخرى ولو ساعة واحدة.