تجاوز الخمسين من عمره وما زال محمود القصبجى يعمل برفقة شقيقه وأبناء عمه، ويتفاخرون بكونهم أبناء عائلة واحدة تُعرف ب«القصبجى»، التى ذاع صيتها عبر التاريخ فى مهنة التقصيب، يتبادلون الحديث عن ذكريات مشرفة مضت، ويحيون بأناملهم الذهبية المهنة التراثية من جديد، بما ينسجونه من لوحات قماشية مطرزة بالخيوط الذهبية داخل الورشة العتيقة التى تقع داخل خان الخليلى، أحد أحياء القاهرة القديمة. كان عمره لا يتجاوز ال11 عاماً حين وطأ «محمود»، برفقة شقيقه «أحمد»، ورشة عائلته، فهم أحفاد عبدالحميد القصبجى، الذى تولى رئاسة مصلحة كسوة الكعبة، وكان ضمن أمهر مَن عمل على حياكة الكسوة وتطريزها بالآيات القرآنية، حين تولت مصر مهمة تصنيعها. لسنوات طويلة ظل «محمود» يتعلم فن التقصيب، والمقصود به فن التطريز والرسم بالأسلاك النحاسية والفضية على القماش، يتذكر الرجل الخمسينى حين كان يجلس بجوار والده وعمته، فسيدات العائلة لهن نصيب من العمل بتلك الحرفة اليدوية، يطالعهما عن قرب، مشاهداً الدقة التى ينسجان بها الخيوط ببعضها. أتقن «محمود» تفاصيل المهنة حتى أصبح يجلس على النول بمفرده؛ لأجل حياكة قطعة قماشية على طريقة التقصيب، البداية تأتى من اختيار القماش الذى يشبه فى أغلبه «كسوة الكعبة»، ثم اختيار الخيوط الذهبية لكتابة الآيات القرآنية التى اتسمت بالدقة الشديدة، إذ يُرسم تصميم الآية على ورق شفاف، ثم يجرى ثقبه بطريقة دقيقة ووضعه على القماش، وتليها مرحلة رش الحبر فوق الثقوب، ومن ثم تبدأ مرحلة الحشو التى يقوم بها لحياكة الثقوب المرسومة على القماش بالخيوط الذهبية. يروى الأسطى الخمسينى أن عائلته ذاع صيتها فى حياكة كسوة الكعبة، التى استمر العمل فيها لسنوات طويلة، حتى توقفت مصر عن حياكتها، ووقتها سافر جده إلى السعودية لتعليم الصنايعية فن حياكة الكسوة، وحين عاد إلى مصر وجد من الحظ الذى جعل اسمه يتردد بين أنحاء العالم، إذ روى «محمود» أن ورشة جده كانت مقصداً للمشاهير والرؤساء. يتذكر «محمود» أن جده تولى مهمة حياكة البدلة العسكرية للملك فاروق، لسنوات طويلة، ومن بعده البدلة العسكرية للرئيس الراحل أنور السادات، ومن وراء جده استمر والده فى التعامل مع المشاهير، ليتحدث عن حياكة طرحة زفاف الأميرة ديانا التى وصل طولها إلى 22 متراً وتكلفت قرابة ال5000 جنيه، وهى التكلفة الباهظة فى ذلك الوقت. يواصل الأسطى الخمسينى حديثه بفخر عن حياكة الشارة العسكرية للرئيس الروسى فلاديمير بوتين، حين كان فى زيارة قديمة لمصر، ووقتها كان رئيس المخابرات الحربية، وأثناء الزيارة حدث تلف ببدلته العسكرية، لينسج والده الشارة العسكرية من جديد. وعلى درب العائلة صار «محمود» برفقة شقيقه وأبناء عمه فى إبداع حياكة الآيات القرآنية والأشعار العربية القديمة على القماش، يشكلون بها لوحات فنية، لكن الأسطى الخمسينى تحدث عن دخول فن التقصيب فى العبايات والستائر، ورغم تعدد أشكال فن التقصيب على القماش لكن تنفيذ قطعة واحدة يحتاج من 15 إلى 20 يوماً. امتداد تاريخ عائلة «القصبجى» فى فن التقصيب زرع بداخل «محمود» حبه الشديد إليها، والنظر إليها كحرفة فنية ألهمته الكثير من الصبر والإتقان، ورغم دخول وسائل تكنولوجية فى فن الطباعة على الملابس، فإن التقصيب سيظل باقياً بحرفيته الشديدة: «الناس لسه بتحب الشغل اليدوى علشان فيه فن وروح أكتر».