داخل وكالة «كحلا» الأثرية بشارع الجمالية، يقع عدد من الورش للحرف اليدوية، فالكل فى حضرتها سابح فى ملكوته، الحالة ذاتها تعيشها ورشة «عادل جمعة» لصناعة التحف النحاسية، المصممة بحرفية وإتقان يسكن القلوب، للوهلة الأولى تظن أن صنعتها لن تستغرق وقتاً طويلاً لكن سرعان ما يصدمك «الأسطى الخمسينى» حين يلقى على مسامعك أن عدة أشهر لن تكون كافية سوى لإنتاج قطعة صغيرة، ويزيدك من الاندهاش حول أسرار مهنة تراثية أبدع فيها الأجداد ففاقوا الخيال. ورث «عادل» المهنة عن عائلته التى عملت بها منذ 3 قرون ونصف القرن، ليفتح عينيه على جمال التحف النحاسية، سابحاً فى بحرها الواسع لينهل من أسرارها.. «اتولدت لقيت نفسى فيها»، هكذا وصف الأسطى الخمسينى ارتباطه ب«الصنعة» التى سار فى درب خطواتها الأولى بين أرجاء ورشة والده القديمة بمنطقة خان الخليلى، حيث أتقن حِرفته فى سن مبكرة. «اختيار الخامة» هى نقطة الانطلاق التى يدور فى فلكها «الصنايعية»، على الأغلب تكون النحاس، ومن ثم تقسيمها لمساحات تتيح الرسم عليها سواء بالآيات القرآنية أو الأشعار العربية أو رموز العصور الإسلامية، ليتم النقش وحفر الرسومات عليها، ومن بعدها مرحلة «التكفيت»، المقصود بها تطعيم الحفر بالأسلاك النحاسية أو الفضة أو الذهب حسب ما يحتاجه الزبون فى القطعة الفنية، فهى المرحلة التى تبرز جمال الصنعة، بحسب حديث الأسطى الخمسينى، الذى يشرف على شكلها النهائى بعدما تخضع للصنفرة والتلميع اليدوى. وبجوار صينية نحاسية كبرى مليئة بالرسومات والزخرفة المنمقة يجلس أمامها أحد الصنايعية، يدق عليها بأقلامه الحديدية المخصصة للحفر لينقش بها رموزاً فنية مستوحاة من العصور الإسلامية السابقة، وقف «الأسطى الخمسينى» كاشفاً عن أسرارها التى امتدت عبر مئات السنوات، فهى قطعة مستوحاة من «الطشت» الذى يوضع فيه إبريق السلطان، وأن العمل على تنفيذها ممتد منذ ما يزيد على العام، بحسب «عادل»: «إحنا شغالين فيها بقالنا سنة وشهرين». ومن القطع الأصلية عادة ما يستوحى «عادل» أفكاره لتنفيذها، واضعاً بصماته وروحه، فهو ليس بمقلد لما يراه فقط، لكن يظل متحف الفن الإسلامى هو المنبع الرئيسى الذى اعتاد «الأسطى الخمسينى» الذهاب إليه منذ أن أتقن الحرفة، سارحاً فى جمال مقتنياته الفنية: «المتحف هو مدرستنا.. بافضل قاعد بالساعات.. أستنبط منه الأشكال.. لكن لازم ندى فرصة للإبداع». وما بين المتاحف العتيقة التى تحتوى على التحف الإسلامية تدور جولات «عادل» لمشاهدة القطع الحقيقية، محاولاً محاكاتها بإبداع أنامله، متحدثاً عن تجربته حين ذهب إلى قصر العظم فى سوريا ليشاهد طاولة حاول تقليدها: «رُحت القصر واستأذنت الأمن إنى ألمس الترابيزة.. علشان أتعرف عليها أكتر». «مفتاح الكعبة.. قفل الكعبة»، هما أكثر القطع الفنية التى عكف «عادل»، برفقة الصنايعية، على تصميمهما، فهما أكثر طلباً من أبناء الخليج: «بيتباركوا بيهم»، ومن بعدهما تأتى الأشكال المختلفة من «الطشت.. إبريق الوضوء.. المشكاة.. الشكمجية.. علبة المصحف»، وغيرها من المعالم الإسلامية البارزة: «أجدادنا مسابوش حاجة إلا وعملوها». على مدار سنوات كثيرة قلد «عادل» الكثير من القطع الأصلية، إلا أن «مقعد عشاء السلطان محمد بن قلاوون»، الموجود فى متحف الفن الإسلامى، هى القطعة الأقرب لقلبه فى محاكاتها، إذ صنعها ثلاث مرات، استغرق تصميمه للمرة الأولى قرابة العامين، مستدعياً فى حديثه موقفاً لم ينسه: «علشان أعرف أقلدها رُحت المتحف قعدت نحو 10 ساعات قدامها.. لدرجة إن الأمن شك فيا كانوا فاكرين هسرقها». إبداع الأسطى الخمسينى فى صناعة التحف النحاسية أعطى له الفرصة فى التعامل مع شخصيات ورؤساء دول، متذكراً فى حديثه حين صمم إحدى القطع الفنية للرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات خلال إحدى زياراته إلى مصر: «اتعاملت مع ملوك التحف فى العالم.. ورؤساء دول». استغراق «عادل» لوقت طويل فى تنفيذ التحف النحاسية خلق بينه وبينها حالة من العشق، تجعله يترك العمل فى شكله النهائى بين يديه لفترة لإشباع عينيه من رؤيته: «لازم بعد ما أخلص القطعة تفضل عندى شوية أستمتع بيها وأشبع منها». ومثلما قضى الأسطى الخمسينى عمره بين أرجاء الورشة، اصطحب «عادل» نجله منذ صغره، ليدور الزمن ويصبح «صهيب» وريث والده فى المهنة ليحافظ عليها: «ابنى دلوقتى بقى المعلم بتاعى.. وصناعة التحف هتفضل مستمرة وهيفضل حبنا وعشقنا ليها مستمر».