هرول مسرعاً، قادماً فى اتجاهى، لم أدرِ مقصده، خاننى الظن حين تصورته «شحاتاً» أو متحرشاً، وقبل أن يرتفع صوتى بالاستغاثة وطلب النجدة، علت صرخته «جرى إيه يا ست، إنتى حد كلمك؟»، ليمد يده أسفل سيارتى ويلتقط كيساً أسود صغيراً كان يخبئه فى إطار السيارة، وقبل أن أنتبه لفعله أو أحاول منعه صرخ مهدداً «دى مخدرات يا أبلة.. ألفّ لك سيجارة وتسكتى».. قالها وتبخر فى الهواء، وكأنه لم يكن، الصدمة ألجمتنى لفترة، قبل أن يلحقنى عامل المقهى البسيط بكوب ماء، مهدئاً من روعى: «معلش يا أبلة، أصل الداخلية بتعمل كبسة كتير على القهوة، وأغلب الحشاشين بيشيلوا البضاعة فى كاوتش العربيات الراكنة». إلى هذا الحد انتهت الصدمة الأولى، لتبدأ سلسلة من الصدمات، حين قص علىَّ القهوجى البسيط حيل تجار المخدرات فى المنطقة للهرب من أعين المخبرين، والتى تتم كلها برضا وموافقة أهالى المنطقة، فبداخل كل منهم يقين وعقيدة أنه مدين لتجار المخدرات بالفضل، يكفى أنهم تولوا حماية مناطقهم خلال الثورة، من البلطجية تارة ومن الداخلية أخرى.. لن أنكر إعجابى الشديد بذكاء تاجر المخدرات وجرأته، وحلوله وغيره من تجار الصنف أو العاملين فى الممنوع للإفلات من قبضة الأمن، ولا أدرى سراً وراء التفوق الرهيب لكل مخالف فى هذا البلد على كل مراقب، دوماً الحرامى وتاجر المخدرات والإرهابى وكل خارج على القانون أذكى وأمهر وأكثر إبداعاً من ضابط الشرطة الذى يلاحقه، هكذا علمتنا الأفلام والدراما، وهكذا يثبت الواقع يوماً بعد يوم، وهو اليقين الذى يدركه الطرفان «الضابط والحرامى» معاً. تقارير صحفية عدة، وتحليلات ومقالات تتغنى بقدرة الإرهابيين -كمثال- على تطوير أدواتهم من وقت لآخر، وتغيير استراتيجيتهم وخططهم، دون كلمة أو حتى نصف -كالتى كتبها العظيم الراحل أحمد رجب -فى المقابل حول قدرة رجال الشرطة على تطوير أدواتهم من وقت لآخر وتغيير استراتيجيتهم وخططهم الأمنية العقيمة، لتخرج النتيجة الطبيعية فى صالح الخارجين عن القانون. ولطالما سألت نفسى عن السر فى التفوق الذى يحرزه هؤلاء الخارجون عن القانون، هل للأمر علاقة بالنوايا الطيبة التى يحملها البعض كمن «يسرق ليعيش» أو «يتاجر فى المخدرات لعدم وجود نص بتحريمها»، هل للأمر علاقة بأن السارق لا يبدأ عمله إلا بالتسمية والصلاة على النبى وطلب الرحمة والمغفرة والستر من المولى عز وجل، وأن الإرهابى يفعل فعلته على اعتقاد واهٍ منه أنها تقرب إلى الله ونصرة لدينه.. أم أن الأمر برمته مربوط بفشل جهاز تركه وزير داخلية قبل 4 سنوات وربما يعود إليه وهو على «حطة إيده»؟ نعم.. ما زالت «الداخلية» بحطة يد «العادلى»، إن لم تقل فى المستوى عن ذلك الذى حققه «العادلى» قبل حبسه، وهو أمر لا يحسب للرجل قبل أن يحسب عليه، فقد أفرغ المنظومة الأمنية من محترفيها، تاركاً «خيال ظل» على رأس كل جهاز، لا يفكر فى تطويره وتحديثه ومحاربة الخارجين عن قانونه، قدر ما يفكر فى إعطاء التمام لرئيسه ومنحه ما يرضى غروره من تعظيمات وتقديرات ويا «باشا» ويا «معالى». ولأن الأمن سلوك وعقيدة وأسلوب حياة، فنصيحتى المخلصة لرئيس الحكومة القادم: لا تبحث عن لواء للداخلية.. ابحث عمن يحرج لواءات الداخلية.