فى مصر فقط تتجلى المتناقضات فى أغرب صورها، شباب يحلمون بالمستقبل من خلف أسوار التجاهل والسجون، وكهول اشتعل بهم الرأس شيبا، هم من يرسمون ملامح هذا المستقبل، ويملأون الفضائيات ضجيجا عن أهمية دور الشباب وتمكينهم للنهوض بالبلاد. هكذا تكتب خيوط المأساة الممزوجة بالألم والسخرية من كل شئ، ثورة منتكسة، لطالما حلمنا بها كجيل انتظر كثيرا على أرصفة التهميش والنسيان، ليكون له صوت مسموع ودور حقيقي فى قيادة الوطن، وحلم تغيير بدا حقيقة بعد ثورة عظيمة قبل أن تبدده رياح المؤامرات والتكويش من قبل بقايا كهان السياسة وأصحاب المصالح، ليقع الشباب الحالم فى فخ دهاليزهم التى يعرفونها هم جيدا ويجهلها الثوار من الشباب.. هذه هى مصر بعد ثورتين.. يشيخ وجهها من جديد.. بعد أن طربنا لصوت أم كلثوم.. تشدو "سلاما شباب النيل.. فى كل موقف". كنت أسير فى منطقة وسط البلد، عندما رأيت شابا تجاوز الثلاثين ببضع سنوات، أمامه صندوق خشبي، يعج بالزجاجات مختلفة الألوان، بينما صوته النابع من خلف بؤس مستحكم: "تلمع يا بيه"، يجذب إليه بعض المارة، فيما يعبره آخرون. "خالد" هو اسمه، يعمل ماسح للأحذية، عرجت عليه أكثر من مرة لتنظيف حذائي، استرعى انتباهى أن كل من يتجه صوبه يدور بينهما حوار خاطف عن أحوال البلد، دفعنى فضولى للتحدث إليه فى إحدى المرات عن نظرته إلى الأوضاع فى مصر كونه شابا، حال بين أحلامه وتحقيقها، واقع أكثر صعوبة كما أنه فى هذه الحقبة التى من المفترض أن تكون جديدة فإن له دورا، هكذا كفل حقه الدستور. كانت نبرته اليائسة هى الغالبة على صوته، وهو يستنكر متسائلا "يا أستاذ الثورة دى مين اللى عملها؟ وقبل أن أرد عليه قال "الشباب كانوا هم البداية وبعدها ضم عليهم باقى الشعب".. ابتسمت له وقلت "مظبوط". فأردف متألما "أين الشباب الآن، هم فى المعتقلات أو ماتوا، ونظام مبارك بيرجع مرة تانى، والعواجيز هم اللى بنشوفهم فى التلفزيون، معقولة شباب يعمل ثورة ويموت فيها شهداء، واللى يتكلم عنهم ناس من النظام اللى قامت ضده الثورة؟! لم أرغب فى مقاطعته فتابع: "الإعلام بيشوه الثورة ويقول إنها مؤامرة، ويتهم شبابها أنهم عملاء وخونة، طيب الرئيس بيقول ثورة، وبيدعوا شبابها علشان يشاركوا فى العملية السياسية، هم عايزنها مؤامرة ولا ثورة؟! لفت انتباهى حديثه، فقلت له مندهشا، وجهة نظرك تحترم ويبدو أنك متابع جيد، قاطعنى حينئذ "أنت مستغرب مش كده، أنا معايا ثانوية عامة وكنت جايب مجموع أدخل كلية، لكن ظروفى الصعبة منعتنى، لكن كان عندى أمل بعد ثورة يناير إن الوضع يتغير وإن الشباب اللى مننا هم اللى يتكلموا عن مشاكلنا، ونلاقى الناس اللى تحس بالفقرا بيمثلونا، مش الأغنياء اللى داخلين السياسة والبرلمان علشان يحافظوا على فلوسهم، وإحنا نفضل شحاتين! وقبل أن أرحل قال بتهكم "يا باشا لسه بلدنا فيها السادة والعبيد، سلملي ع الثورة". فى النمسا أصبح وزير خارجيتها هو الأصغر على مستوى العالم، الشاب "سباستيان كورتس" الذى كان عضوا فى الحزب الشعبي وتدرج فى مناصبه وانتخب العام الماضى عضوا بالبرلمان، وبعدها وزيرا للخارجية وعمره 28 عاما، وبفارق عشرة أعوام "شارل ميشيل" رئيسا لورزاء بلجيكا، ولم يتعد ال39 عاما، واليسارى "ماتيو رينزي" ذى ال38 عاما على رأس الحكومة الإيطالية، بينما فى مصر نرى وزراءنا وساستنا ورؤساء الأحزاب وقد اجتمعوا، كما كهنة معبد آمون، يعقدون التحالفات والصفقات، ويرشحون الأسماء للانتخابات البرلمانية وهم على أعتاب السبعين ومنهم من تجاوز السبعين، فيما يظل الشباب الذى لم يتجاوز سنه الأربعين عاما على قارعة التهميش، لا يجد من يعبر عنه وعن أحلامه، فى الوقت الذى ناشد وطالب فيه الرئيس السيسي الشباب للمشاركة فى العملية السياسية. كيف يا سيادة الرئيس وأصحاب الشعر الأبيض وكثير منهم كانوا جزءا من نظام مبارك الذى ثار عليه الشعب بقيادة الشباب، هم من يتصدرون المشهد الآن؟! " ثمة شيء عفن فى الدانمارك"، قالها شكسبير فى روايته الشهيرة "هاملت"، ونقولها نحن أيضا "ثمة شيء عفن تفوح رائحته"، وكل شيء ليس على ما يرام، لا نريدها دولة للشعر الأبيض تقتل آمال الشباب وتستبيح أحلامهم، لا نريد رجال مبارك ورأس ماله يتحكمون فى مصائر الشعب المصرى مرة أخرى، هؤلاء يسخرون من الشباب كما حدث قبل يناير، فكانت يناير، والآن يعودون ويخرجون لسانهم فى وجه الشباب، لا يدركون أن منهم من فقد أخوه أو صديقه فى ثورة كان من المفترض أن تعصف بأمثالهم. مما يكرسون للطبقية وازدراء الفقراء. الثورة تهدأ لكنها لا تموت.. فلا تؤسسوا ل"دولة الشعر الأبيض".. التى يحكمها السادة.. الشعب على أرضها عبيد".