وقفت فى شرفة المنزل الكبير المكون من طابقين الذى يقع فى وسط المدينة تنظر إلى البحيرة الكبيرة التى يطل عليها فى إحدى ليالى أكتوبر والشتاء يدق أبوابه، وقفت تستمع إلى صوت قطرات المطر على الزجاج ليقطع سكون الليل فى مقطوعة موسيقية منتظمة، كانت الساعة قد اقتربت من الثانية عشرة بعد منتصف الليل ولم تستطع أن تستسلم للنوم الذى سيطر على كل القاطنين فى المنزل، كانت تراقب البحيرة وتنظر إلى الأشجار التى ملأت الحديقة المحيطة بالمنزل وهى تحلم بالخروج من المنزل والسير على ضفاف تلك البحيرة، بالرغم من الحياة المدللة التى كانت تحياها فى هذا المنزل وبالرغم من أنها كانت محط اهتمام ورعاية الجميع ولكنها وهى الصغيره التى لم تتجاوز الثلاثة أعوام كانت تشعر بالحزن والملل الشديد، فقد كانت سجينة هذا المنزل الكبير وهذه الحياة المرفهة فلم يكن يسمح لها أبدا بالخروج من بوابة المنزل. وفى تلك الليلة من ليالى بداية الشتاء وبينما هى جالسة فى الشرفة والجميع نائمون انتبهت إلى صوت سيارة رب المنزل، نظرت للأسفل فوجدته عائدا من الخارج، لم تكن عادته أن يأتى متأخرا فى هذا الموعد، وقفت السيارة فى جراج المنزل ثم نزل الأب منها، كان يبدو عليه التعب والإرهاق الشديدين حتى أنه.. نسى باب الفيلا مفتوحا. نزلت مسرعة إلى الطابق الأسفل، وقفت أمام الباب المفتوح، ترددت للحظة ثم انطلقت هاربة من البيت، تسللت مسرعة إلى خارج الحديقه تتحسس خطواتها فى الظلام الحالك حتى وصلت لبداية الشارع، وقفت تتأمل المشهد فى ذهول، كم هو جميل العالم الخارجى، وقفت تتأمل الأنوار المضيئة فى ليالى الشتاء الساحرة، والشوارع اللامعة التى تتساقط عليها الأمطار لينعكس عليها ضوء القمر، الشوارع المزدحمة بالناس المختبئين تحت المظلات يتسامرون ويضحكون ويتفرجون على فاترينات المحلات التى تقع على جانبى الطريق. انطلقت سائرة فى الشارع الملىء بالمحلات وهى فى سعادة بالغة، وقفت أمام زجاج أحد المحلات لترى صورتها فيه، فتحرك يديها وتخرج لسانها بطريقة طفولية ثم تضحك على شكلها فى المرآة ، كم هى جميلة رائحة الأمطار والهواء والشوارع، كم هى جميلة الحرية. انطلقت تحت الأمطار تجرى وتمرح مستمتعة بكل قطرة مطر تسقط على رأسها الصغير، وسارت كثيرا حتى شعرت بالتعب. جلست على السلالم فى مدخل إحدى العمارات لتستريح قليلا، وأخذت تراقب المارة بعينيها الزرقاوين الواسعتين اللتين ينعكس فيهما ضوء القمر ليزدادا سحرا وجمالا، ثم راحت فى سبات عميق. استيقظت فجأة على صوت البرق والرعد يدوى فى سماء المدينة والأمطار تنهمر بشدة، وقد أصبح الشارع المكتظ بالناس خاليا وأغلقت المحلات أبوابها وانطفأت الأنوار حتى ساد الظلام المدينة ولم يبق إلا ضوء خافت قادم من القمر، شعرت بالخوف الشديد وأرادت العودة للمنزل، التفتت يمينا ويسارا بحثا عن طريق العودة ولكنها قد نسيت تماما من أين جاءت وكيف تعود، ارتجف جسدها الصغير من الخوف وذهبت تبحث عن مكان تختبئ فيه من الأمطار الشديدة، جلست على سلالم إحدى المحلات تختبئ تحت مظلته وراحت تتذكر المنزل الآمن وسريرها الدافئ. نظرت للقمر فإذا بها تراه مخيفا يتوارى خلف السحب وكأنه سوف يذهب ويتركها وحيدة فى هذا الظلام، وبينما هى شاردة الذهن يملأها الخوف والندم لفت نظرها شارعا مضيئا فى الجهة المقابلة من الشارع، فعزمت على المرور بين السيارات والذهاب إليه. قامت من على السلالم ونظرت إلى السيارات المسرعة فى خوف وتردد وشعرت أنها وحوش ضارية سوف تفتك بها فكلما حاولت المرور من أمامها جاءت إحدى تلك الوحوش بسرعة نحوها فتضطر إلى الرجوع إلى الوراء مرة أخرى وظلت على هذا الحال حتى نجحت فى الوصول إلى الجانب الآخر من الشارع بعد عدة محاولات للمرور بين السيارات. وصلت عند بداية الشارع المضىء، كان شارعا ضيقا ولكنه كان يبدو لها آمنا إلى حد ما، فسارت فيه بين البنايات التى كانت تقع على الصفين، وكلما سارت للأمام رأت خيالات المبانى تزداد ارتفاعا مما زاد من خوفها وفزعها. تعبت من السير وملأها اليأس والتعب فجلست على الرصيف وأخذت تبكى وهى تنظر إلى الشارع الخالى من الناس والسيارات، مرت عليها عدة دقائق وهى على هذا الحال كانت بالنسبة لها سنوات طويلة.. وفجأة انتبهت إلى إضاءة شديدة من إحدى السيارات، اقتربت السيارة منها أكثر، ثم فُتح زجاج النافذة وسمعت صوتا تعرفه كثيرا، فُتح باب السيارة ونزلت منه فتاة صغيرة، وقالت بصوت طفولى مرتفع.. أمى، لقد وجدت القطة!!