أتاحت لنا مواد تم نشرها خلال الأسبوع الأخير فرصتين نادرتين للتعرف على طريقة تفكير العقل الثورى، والمخاطر المخيفة التى يمكن أن توقعنا فيها هذه الطريقة فى التفكير والفعل. الفرصة الأولى جاءت فى الحوار الذى أجرته صحيفة «الشرق القطرية» مع عاصم عبدالماجد، القيادى فى الجماعة الإسلامية الهارب إلى قطر، بينما جاءت الفرصة الثانية فى تسجيل لحوار بين الدكتور ممدوح حمزة وآخرين كان قد تسريبه قبل حوالى ثلاث سنوات، وأعاد أحمد موسى بثه فى برنامجه التليفزيونى مؤخراً. قال عبدالماجد إنه وجماعته اتفقوا مع الإخوان فى مطلع ثورة يناير على تأسيس حرس ثورى لحماية الثورة، وأنهم شرعوا بالفعل فى تنفيذ هذه الفكرة عبر تدريب وتسليح اللجان الشعبية التى تأسست بعد انهيار الشرطة، أو فى الحقيقة عبر استخدام لافتة اللجان الشعبية البريئة لتأسيس ميليشيا إسلامية مسلحة. قال عبدالماجد إن الإخوان أنكروا صلتهم بالمشروع بعد أن قام هو بإعلان ما تم الاتفاق عليه معهم، الأمر الذى أدى لوأد الفكرة. تأسيس حرس ثورى مسلح هو أقصى إجراء يمكن اتخاذه لتمكين الثوار من الاستيلاء على السلطة. الجيش والشرطة هما مؤسستان تنفردان بالحق الشرعى فى امتلاك السلاح واستخدام القوة لفرض النظام وتحقيق الأمن. عندما يسعى أحدهم لتأسيس قوة مسلحة بديلة فإنه ينزع الشرعية عن أجهزة الدولة المسلحة التى تستند إلى دساتير وقوانين ومؤسسات وأعراف وميراث طويل من الممارسة التاريخية مستبدلاً إياها بقوة مسلحة تستند إلى شرعية الثورة. لا تظهر الحاجة لمثل هذا الإجراء المتطرف فى الحالة التى يكون فيها المجتمع مهيأ للتغيير. عندما تتوافق الأغلبية الساحقة من الناس على إسقاط النظام القائم وعلى طبيعة النظام السياسى الذى يجب أن يحل محله لا تكون هناك حاجة لبناء قوة مسلحة بديلة للقوات الشرعية، التى عادة ما تنصاع للوضع الجديد وتسلم له القياد. هذا هو ما حدث فى أوروبا الشرقية التى شهدت تحولاً سلمياً من النظام الشيوعى الاستبدادى إلى النظام الديمقراطى. الثوريون يلجأون إلى هذا الإجراء عندما لا يمثلون سوى أقلية فى خضم حالة ثورية عارمة أخرجت الملايين للاحتجاج على النظام القائم لكن لأهداف شتى. عندما يكون الثوريون مجرد عصبة صغيرة ضمن الجموع الهائلة، فإنهم يحتاجون لمثل هذه الإجراء المتطرف لفرض إرادتهم وسيطرتهم ليس فقط على الدولة المنهارة، وإنما أيضاً لفرضها على آخرين خرجوا معهم للمشاركة فى الثورة ولكن من أجل أهداف أخرى. هذا هو ما حدث فى الثورة الروسية عام 1917 وفى الثورة الإيرانية عام 1979، حين قام البلاشفة الشيوعيون من أتباع لينين والإسلاميون من أتباع الخمينى باستخدام الحرس الثورى لتصفية المخالفين لهم من النظام القديم ولتصفية شركاء الثورة أيضاً. أنتجت الثورتان نظامين سلطويين، حكم الأول روسيا لمدة تجاوزت السبعين عاماً، فيما ما زال الثانى يحكم إيران بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاماً على الثورة. الحرس الثورى هو فكرة سلطوية بامتياز، وهذا هو ما كان ينتظر مصر لو نجح الإسلاميون الثوريون فى تنفيذ مشروعهم. الدولة المصرية، وفى القلب منها جيش ومؤسسات لها رصيد كبير من الشرعية، ما كان لها أن تنهزم أو تنسحب أمام حرس عبدالماجد الثورى. مقاومة الدولة لأوهام الثوار المسلحة كان يمكن لها أن تدخل البلاد فى حالة احتراب أهلى شبيهة بتلك التى نراها الآن فى سوريا، أما هزيمة الدولة أمام الحرس الثورى المسلح، فكان يمكن لها أن تفتح الباب لوضعٍ تنقسم فيه قوات الثورة المسلحة على نفسها فتدخل البلاد فى حالة شبيهة بالحالة الليبية الراهنة. أفكار الثورى الإسلامى عاصم عبدالماجد ما كان لها أن تأتى لنا سوى بالكارثة، وحسناً فعل الإخوان عندما انصرفوا عن المشاركة فيها. رواية عبدالماجد تقول إن الإخوان لم يصرفوا النظر عن الفكرة إلا بعد أن خرجت إلى العلن وبعد أن كانوا وافقوا عليها فى الغرف المغلقة، وهذه هى المشكلة الكبرى فى التعامل مع الإخوان، فالحديث بلسانين والكيل بمكيالين هو ديدن الإخوان الذى لم يتخلوا عنه أبداً. إنهم يريدون كل شىء فى نفس الوقت، ومستعدون لفعل أى شىء يقترب بهم من الوصول إلى السلطة، بما فى ذلك ركوب حصانى الديمقراطية والحرس الثورى المسلح فى نفس الوقت مع أن كلاً منهما يسير فى اتجاه معاكس للآخر. وهى أيضاً الانتهازية والنفاق الذى يسمح للإخوان باللجوء للإنكار إذا تعقدت الأمور أو إذا خرجت الاتفاقات السرية إلى العلن. فى الحديث المسرب للدكتور ممدوح حمزة وثوريين آخرين تخطيط لتنفيذ إضراب عام يستهدف إسقاط المجلس العسكرى الذى حكم مصر بعد سقوط مبارك. التسجيل المنسوب لممدوح حمزة وآخرين لا يتضمن أى إشارة لما يمكن أن يحدث بعد إسقاط المجلس العسكرى، ومن يمكن أن يتولى السلطة بعده. حرس عاصم عبدالماجد الثورى كان خطوة على طريق الاستيلاء على السلطة، فيما إضراب ممدوح حمزة العام لم يهدف سوى إلى إسقاطها، وهذا هو الفارق بين تفكير الثوريين الإسلاميين وغير الإسلاميين. فالأولون يعرفون الهدف الذى يريدون تحقيقه، فيما الآخرون لا يعرفون سوى الهدف الذى يريدون منع الآخرين من تحقيقه. الإسلاميون يصارعون من أجل الفوز بالسلطة، فيما يكتفى الثوريون اليساريون وغيرهم من المتمردين على السلطة بإثارة الاضطراب. الفوضى التى يثيرها ثوار اليسار والفوضويون قد تسهل للإسلاميين الاستيلاء على السلطة كما حدث فى إيران، أو قد تتيح للآخرين استخدامهم لتحقيق أهداف خاصة كما حدث فى تجارب كثيرة أخرى، لكنها لا تؤهلهم لكى يكونوا طرفاً يعتد به فى معادلات السلطة، وهذه هى مشكلة اليسار الثورى المزمنة.