سواء كان ما جرى فى يناير ثورة أو كان «مبارك» بطلاً قومياً أو رئيساً فاسداً، أو كان «مرسى» شيخ منصر أو استبناً فارغاً، أو كان مجىء السيسى رئيساً هدية إلهية أو غضبة سماوية، لن تتبدل الأرقام أو تتعدل الإحصاءات أو يعاد تعريف ما يجرى يومياً وعلى مدار الساعة سوى بأنه شر مطلق وخراب مطبق وجنون مفزع. الفزع المرسوم على وجهها بينما السيارة تناطح ما حولها من مركبات متوحشة وأخرى مفترسة وثالثة متربصة، وصل درجة الهلع حين فوجئت بمطلع كوبرى أكتوبر حيث حارتين واضحتين جليتين لا مجال فيهما لتخيل حارة ثالثة فما بالك بالرابعة؟! صرخت صرخة مرتعبة بينما تضع يديها على أذنيها وأطبقت عينيها تماماً حتى توفر لنفسها أفضل قدر ممكن من الصحة النفسية والراحة العقلية، هذا إذا كان فى العمر بقية. وحين فتحت عينيها، بعد وقت ظنت أنه طال، حيث لم تسمع صوت ارتطام حديدى متوقع، أو تكسر أسمنتى منظور، أو حتى احتكاك خرسانى متكهن. مرت الطلعة بسلام، إذ لم تقتصر إلا على القليل من الشتم بالأب والأم، والتهديد بتطليع عين الأم مع التشكيك فى نسب الابن، وتشكيلة منتقاة من الشتائم التى يتعلق جميعها بشرف نساء عائلات القادة، حيث تبادل الجميع أقبح الأوصاف وأقذر الألفاظ قبل أن ينطلق الجميع إلى حال سبيله بأقصى سرعة تتحملها مركبته، فلا لوحة محددة للسرعة ب60 كيلومتراً فى الساعة تعنى شيئاً، فهى والعدم سواء. ولا ما تبقى من تأكيد على أن «القيادة فن وذوق وأخلاق» تسترعى انتباه أحد، لأن الجميع منشغل بما هو أهم. سألت بعد ما استعادت حواسها التى عطلتها أثناء النفير العام المطلق على مطلع الكوبرى قائلة: «لماذا تقودون سياراتكم هكذا؟ أنتم مجانين بكل تأكيد». نظر إليها أفراد أسرتها بتعجب بالغ وحنان زائد، وقال عمها بلهجة حانية: «يابنتى مصر اتغيرت. القيادة للأقوى. أريدك أن تنسى تماماً سنوات غربتك فى بريطانيا وما يتبعونه من قواعد مرور ومبادئ قيادة وأصول لياقة. اعتبرى نفسك فى غابة وحاولى أن تبقى على قيد الحياة بكل ما أوتيت من قوة». لكن الحقيقة هى أن من عاش خارج حدود المحروسة يحتاج إلى إعادة تأهيل للتعامل مع واقع المرور الأليم. الدليل السياحى الذى تحمله فى يدها عن مصر يضم فصلاً مستقلاً عن جنون القيادة فى القاهرة، حيث أوصاف صريحة للسائق المصرى بالخبل التام والجنون الزؤام، ونعت الشوارع بالسيرك الكبير، ووصف الشوارع بالأرصفة المحتلة، وتوصيف الحالة بأنها «غير خاضعة للقوانين، لا الوضعية ولا الطبيعية». بذلت الكثير من الجهد واستثمرت العديد من الفرص لتفهم سر العلاقة بين دواسة البنزين وآلة التنبيه، أو تفك شفرة «تقليب النور العالى» بشكل هستيرى للسيارة الأمامية رغم أن الجميع مزنوق دون حراك فى قلب شارع رمسيس، أو تجد مبرراً للربط بين نشر الإسلام فى بلد مسلم أصلاً عبر ملصقات ضخمة على زجاج السيارات الخلفى معلنة أن «لا إله إلا الله» وأن «محمداً رسول الله»، أو تهضم التناقض بين سائق الأجرة الذى يدير القرآن بصوت يصل إلى القاصى قبل الدانى، لكنه لا يتوانى أبداً عن سب الدين لكل من حوله. ولم تستوعب فكرة أن يتم توظيف سائق ليقود «باص عام» وائتمانه على أرواح الركاب، بينما يبدو وكأنه يحمل جمجمة منزوعة المخ. كما لم تستسغ ظاهرة السيارات ربع النقل التى يقودها انتحاريون أو قتلة لا يهدفون إلا إلى الموت عبر أخطر أنواع القيادة. ولم تتحمل متابعة المنازلة حامية الوطيس بين اثنين من قادة الميكروباصات حيث أعتى الشتائم وأبشع الألفاظ. فجأة تذكرت نصيحة «عمو». لقد أخبرها بضرورة نسيان القيادة التى هى فن وذوق وأخلاق وتذكر أنها تعيش فى غابة، حيث القيادة فن وبلطجة وقلة أدب.