فى الماضى، كان العالَم منقسماً بين دول «متقدمة» وأخرى «متخلفة» وقد أُطلق على الأخيرة تأدُّباً دول «نامية». كان فن الإحصاء يُسعفنا بمؤشرات اقتصادية تقيس «تقدم» هؤلاء «وتخلف» أولئك وترتيبهم على سلم النمو. الآن صار بوسعنا -بفضل تقنيات النمذجة الإحصائية- أن نوسّع دوائر التصنيف والترتيب والمقارنة، وأن نستعيض عن الوصف الكيفى بالقياس الكمى. صار بإمكاننا أن نقيس اليوم ما كان بالأمس غير قابل للقياس، كحالة «الحرية» و«الديمقراطية» و«المعرفة» و«الحوكمة» و«الفساد» و«حرية السوق» و«تمكين المرأة» و«حالة الأمن والسلام العالمى»، وأن نقارن بين دول «آمنة» تنعم بالسلام ودول غير آمنة، تتقلب فى الفوضى. آخر تلك المؤشرات التى تصف لنا ثنائية عالمية جديدة، هو «مؤشر السلام العالمى» (GLOBAL PEACE INDEX)، وهو تقرير سنوى صدر لأول مرة فى 2008 عن معهد الاقتصاد والسلام (INSTITUTE FOR ECONOMICS & PEACE)، وهو منظمة غير حكومية مقرها الرئيسى فى لندن. ويقوم التقرير برصد ومتابعة وتحليل حالة السلام والأمن فى 162 دولة. ويستخدم ثلاثة مؤشرات رئيسية لقياس مدى استقرار هذه الدول، هى الصراعات الداخلية والخارجية ومستوى الأمن والأمان فى المجتمع، وحجم التسلح. ويندرج تحت هذه المؤشرات الثلاثة 22 مؤشراً فرعياً، مثل عدد اللاجئين والنازحين، كنسبة مئوية من عدد السكان وعدم الاستقرار السياسى، والأعمال الإرهابية، والتظاهرات العنيفة، ونسبة الإنفاق العسكرى إلى الناتج المحلى الإجمالى، فضلاً عن عدد من المؤشرات اعتبرها التقرير «دعائم السلام» يندرج تحتها الأداء الجيد للحكومة، والبيئة التجارية السليمة، والتوزيع العادل للموارد، والاعتراف بحقوق الآخرين، والعلاقات الطيبة مع دول الجوار، والتدفُّق الحر للمعلومات، وارتفاع مستويات التعليم، وانخفاض مستويات الفساد. فى هذا التقرير تُرتّب الدول تنازلياً، فالدول الأعلى درجة هى التى يقل فيها مستوى السلام والأمن. ينعى لنا التقرير الصادر هذا العام (2014)، حالة الأمن والسلام العالمى، فالعالم -حسب التقرير- مستمر منذ سبع سنوات مضت فى ابتعاده عن السلام، على الرغم من أن القرن الذى نعيشه هو أكثر القرون «سلمية» حتى الآن فى تاريخ البشرية، فمنذ 2008 تراجع مستوى السلم فى 111 دولة، فى مقابل صعود «المؤشر» إيجابياً فى 51 دولة فقط. ويعد هذا العام هو السابع على التوالى الذى يتدحرج فيه العالم مثل كرة الثلج نحو «سلمية أقل». وهو تحوّل يخالف بشدة النزعة التى شهدت تحركاً عالمياً لاجتناب الصراعات، منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. هذا التحوّل العالمى نحو العنف قُدّرت تكلفته فى العام الماضى بحوالى 8٫9 تريليون دولار، وهو ما يعادل الناتج المحلى الإجمالى لأربع دول كبرى، هى بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، أو ما يوازى ضعفى الناتج المحلى للقارة الأفريقية بدولها الأربع والخمسين مجتمعة، وما يعنى أن نصيب كل مواطن من ميزانية احتواء العنف بلغ 1350 دولاراً كافية لتحسين مستويات التعليم والصحة والسكن. وعلى منوال كل الثنائيات الدولية التقليدية التى دارت حول شمال وجنوب، ينسج التقرير «ثنائية دولية جديدة» يقارن فيها بين محظوظين أكثر أمناً وسلاماً وغير محظوظين أقل أمناً وسلاماً. ومثل كل الثنائيات التقليدية حافظت دول الشمال على ترتيبها الذى احتلته فى الأعوام السابقة، كأكثر المناطق سلمية فى العالم. فمن بين الدول العشر الأولى الأكثر سلمية وأمناً، هناك 7 دول أوروبية. على رأس هذه الدول الآمنة تأتى آيسلندا، تليها فى المرتبة الثانية الدنمارك، فالنمسا والسويد وسويسرا وألمانيا. وتعترض هذا السياق الأوروبى ثلاث دول غير أوروبية هى نيوزيلندا واليابان وكندا، هذه الدول لديها أقل معدلات للجريمة وأقل نسبة للإنفاق العسكرى، والأوفر حظاً فى علاقات حسن الجوار. وباستثناء الدول العشر المحظوظة، انخفضت معدلات السلام والأمن فى دول أخرى، وتراجعت عن ترتيبها فى الأعوام السابقة منها. بريطانيا التى أحرزت المرتبة 47، ثم الولاياتالمتحدة التى جاءت فى المرتبة 101، والصين 108، وإيران 131، وإسرائيل 149، وروسيا 152. ومن الواضح أن روسيا دفعت تكاليف حمايتها لمصالحها القومية فى أوكرانيا والقرم. كان المتوقع لدولة عدوانية مدجّجة بالسلاح مثل إسرائيل، تحتل أرض الغير، «معسكرة» من الرأس إلى أخمص القدم أو من الجليل إلى الخليل أن يضعها التقرير فى المرتبة 162، أى فى ذيل القائمة، لكن عوضاً عن ذلك حُجز المقعد الأخير لأفغانستان، دولة محتلة مغلوبة على أمرها، اعتصرتها الصراعات الداخلية والحروب الأهلية، قبل أن تتنازل عنه لسوريا البلد العربى الذى تناوشته سهام التدخل الأجنبى وحراب الإرهاب ومعارضة ممزّقة معظمها يُنفذ أجندات خارجية. ويبدو أن عالمنا العربى هو الأقل أمناً وسلاماً فى مؤشر السلام العالمى، فمن بين الدول العشرين الأقل سلمية، هناك 8 دول عربية هى سورياوالعراق والصومال والسودان واليمن وليبيا ولبنان ومصر، الأسوأ فيها على الإطلاق سورياوالعراق والصومال وجنوب السودان. وبسبب الحرب الأهلية تحتل جنوب السودان الآن المركز الثانى بين الدول الأقل سلمية. وجاءت العراق فى المركز الثالث حتى قبل أن تقترب غارات «داعش» من العاصمة بغداد، كما تتعرّض مصر لتهديدات الإرهاب فى الداخل، ومخاطر قوس اللهب المتأجج حولها فى دول الجوار الإقليمى. أسباب كثيرة دفعت إلى تدهور الأمن والسلام العالمى على مدار السنوات السبع الأخيرة، وحجزت مركزاً دونياً للعرب فى مؤشراته، منها الذيول الاقتصادية للأزمة المالية العالمية وتداعيات الربيع العربى وما رافقها من صعود مفاجئ لبعض الجماعات الأصولية المتطرّفة إلى مراكز الحكم فى مصر وليبيا وتزايد النشاط الإرهابى والنزاعات المسلحة والإبادة الجماعية والتهجير القسرى لجماعات عرقية ودينية معينة فى سورياوالعراق، ناهيك عن الحرب الإسرائيلية العدوانية على غزة، وما صاحبها من دمار واسع النطاق. ويتنبأ التقرير بالدول المرشّحة للتدهور فى معدلات سلمها وأمنها خلال العامين المقبلين، وحتى هذه القائمة التى تشمل زامبيا وهايتى وتشاد وجورجيا والأرجنتين لا تخلو هى الأخرى من بلد عربى هو قطر، صُنّف فى موضع آخر من التقرير من ضمن إحدى عشرة دولة لم تتورط قط فى صراع من أى نوع، بينما يعرف القاصى والدانى أنها غارقة حتى أذنيها فى معظم -إن لم يكن كل- الصراعات الإقليمية، فضلاً عن أنها متهمة بانتهاكات صارخة لحقوق العمال الأجانب قد تهدد ترشيحها -المشكوك فى نزاهته أيضاً- من الفيفا لتنظيم كأس العالم لكرة القدم فى 2022.