اقتربت أيام فصل الشتاء واستعدت أسراب الحمام للرحيل من الشمال البارد للجنوب الدافئ، للحمام شكل جميل وصوته الشجى يسمى الهديل، حول عنقه ريش أبيض يبدو من بعيد كعقد من حبات اللؤلؤ تلمع تحت أشعة الشمس الذهبية، اتخذت كل حمامة مكانها فى السرب يتقدمها قائد الرحلة، وهو أكبرها سناً قام بالعديد من الرحلات واجتاز أكبر البحار والمحيطات، واجه الكثير من الأخطار ويعرف العديد من الأسرار. ولكن أكبر سر احتفظ به هو سر الريشة البيضاء التى لم تكن تفارقه فى أى رحلة يقوم بها مهما كانت صعبة وطويلة. ريشة يضعها دائماً بين مخالبه يمسك بها وكأنه يحتضنها ويستمد منها القوة والصبر على الشدائد التى تواجهه، فهو المسئول عن حماية السرب وتوفير الأمن والغذاء له طوال الرحلة. وكلما حاولت حمامة أن تسأله عن سر هذه الريشة كانت عيناه تمتلئان بالدموع ويطير وحيداً دون أن يبوح بسره، يشق هديله سكون السماء ويتردد صداه فى الفضاء. اجتمع قائد سرب الحمام بأولاده وأحفاده وقال لهم: هذه آخر رحلة أقوم بها معكم فقد امتد بى العمر وبدأت أشعر بالضعف، لم يعد جناحاى يخفقان بنفس القوة، ولم تعد عيناى قادرتين على اختراق السحاب، لذلك سأبوح لكم بالسر الذى احتفظت به أعواماً طويلة، سر الريشة التى لا تفارقنى.. كان الكل حزيناً لأنها آخر رحلة للقائد الذى كان دائماً رمزاً للأمان، وبقدر حزنهم كانت فرحتهم بمعرفة سر الريشة البيضاء. فى المساء اجتمع سرب الحمام حول بحيرة صغيرة، قال القائد: فى هذا المكان بدأت الحكاية، كنت صغيراً وكان والدى هو قائد الرحلة وتوقف السرب ليرتاح قليلاً، وأثناء الليل سمعت هديلاً خلف البحيرة، كانت هناك مزرعة كبيرة يسكنها الحمام مع باقى الحيوانات، تجمع حولى حمام المزرعة وحكيت لها عن الرحلات التى أقوم بها كل شتاء وعن الأخطار التى تواجهنا والصعاب التى تعودنا على احتمالها، أحياناً يختطف صقر أو نسر بعضاً منا، أحياناً تفاجئنا رصاصة الصياد أو يسقط بعضنا فى البحر من شدة التعب، لكن السرب بكامله يستأنف الرحلة، تعجبت حمامة وسألتنى: كيف تستطيع الطيران كل هذه المسافات؟ خفقت بجناحى قائلاً لها: وما فائدة هذه الأجنحة التى خلقها الله لنا؟ إنها رمز الحرية التى ننعم بها، قالت حمامة أخرى: نحن نخفق بأجنحتنا تعبيراً عن السعادة والفرح، قد نطير أحياناً ولكننا لا نستطيع أن نطير عالياً مثلكم.. يا لكم من تعساء، ما هذه الحياة التى تعيشونها؟! ليتكم سعداء مثلنا، نحن لا نحتاج للبحث عن الطعام أو المأوى، لا نعيش فى خوف دائم مثلكم، وقالت حمامة أخرى: ما الذى يجعلنا نحلق عالياً فى السماء ونتعرض للمتاعب والأخطار وأمامنا الحياة الأسهل؟ يا لكم من أشقياء! قلت لها: على العكس نحن أكثر سعادة لأننا أحرار يكفى أننا نفعل ما نريد فى الوقت الذى نريده، وبعيداً كانت هناك حمامة بيضاء صغيرة تماثلنى فى العمر تقف وحيدة تنظر إلىّ بحب وإعجاب، يشع من عينيها ذكاء وتحد. سألت حمامة من السرب: من هو أكثر سعادة؟ تثاءب الخروف وقال فى كسل: السعادة هى الراحة والكسل ونحن يأتى لنا الطعام من دون تعب، أما أنتم فدائماً فى خطر كيف إذن تشعرون بالسعادة؟ رأى الجميع شعاعين من ضوء أخضر اخترقا فجأة الظلام.. دخلت قطة مندفعة وقالت: كنت أعيش مع أسرة تقدم لى الطعام ولكنى لم أشعر يوماً بالراحة أو الأمان، هربت من مضايقات الأطفال والحبس فى المنزل، قد أتعرض للكثير من الأخطار وأبذل جهداً فى الحصول على الطعام ولكن مع ذلك أشعر مثله بالسعادة فقد أصبحت حرة، وفجأة رأت القطة أحد الفئران يجرى فاندفعت وراءه فى سعادة وهى تقول: ما ألذ الطعام عندما تبذل جهداً فى الحصول عليه، سعدت بكلام القطة ولمحت هذه السعادة فى عينى الحمامة الصغيرة البيضاء، زقزق عصفور صغير وقال لحمام المزرعة: سرب الحمام أكثر سعادة منكم، ففى كل رحلة يتعلم شيئاً جديداً ويكتسب العديد من الخبرات والصداقات، قالت حمامة: لسنا فى حاجة لبذل الجهد حتى نحصل على الطعام، سمعتها الشجرة العجوز فقالت: يقدم لكم صاحب المزرعة الطعام والشراب ليضمن لأسرته كل يوم وجبة شهية، كانت خيوط الشمس الذهبية تنشر أشعتها وبدأت أستعد للرحيل، اقتربت منى الحمامة البيضاء الصغيرة وقالت: كم تمنيت أن أكون حرة مثلكم، السماء بيتى والشمس والقمر جيرانى، هديلى يملأ الكون، أتعرض للمخاطر وأواجهها بكل شجاعة وإصرار، بكت وتساقطت دموعها على ريشة من ريشها، سقطت فأخذتها قائلاً: لن تفارقنى ريشتك البيضاء أبداً سأضعها فى قلبى وأحملها بين مخالبى وربما نلتقى مرة أخرى وتروى لك ريشتك ما شاهدت فى رحلاتها. فى هديلها الحزين قالت الحمامة البيضاء: سأنتظرك يا صديقى وحتى لو لم نلتق سأراك كلما تردد صدى هديلك فى السماء، فقد علمتنى اليوم معنى جديداً للسعادة.