ليسمح لى الصديق العزيز أ. مجدى الجلاد أن أقتبس جزءاً صغيراً من برنامجه «هنا العاصمة» الُمذاع مساء الاثنين الماضى، خاصة الفقرة المتعلقة بانقطاع الكهرباء وردود فعل بعض المصريين، فبعد أن أكدت إحدى السيدات غضبها من انقطاع الكهرباء وأن الأمر تجاوز الحدود المحتملة، أشار أ. مجدى إلى ضرورة ترشيد استخدام الكهرباء نظراً للظروف الدقيقة التى تمر بها مصر، وهنا ردت الضيفة قائلة «ترشيد إزاى، كل واحد قاعد فى حجرته ومعاه تكييفه ومروحته، دا نمط حياتنا». فما كان من الصديق العزيز إلا معاودة التأكيد على ضرورة الترشيد مع إجراءات أخرى تقوم بها الحكومة وكبار المسئولين. وبالقطع فلا تثريب على غضب السيدة وانزعاج باقى الذين تحدثوا هاتفياً من انقطاع الكهرباء، التى بدونها تتوقف الحياة ونُصاب جميعاً بالغضب والقرف. ولا أخفى أننى شعرت بالقلق الشديد من مسألة أن بعض المصريين لا يريدون أن يتكيفوا ولو قليلاً مع الحالة التى تمر بها البلاد، ويرون أن نمط الحياة الذى اعتادوا عليه يجب ألا يُمس بأى شكل كان مهما كانت الظروف الطارئة التى نعيشها، ويعتقدون أن على الحكومة أن تقوم بكل الأدوار وتبحث عن الحلول والمخرجات بأى طريقة، شرط ألا يتحملوا أى قدر من التضحيات المحسوبة. وأعتقد هنا أن مثل هذه الطريقة من التفكير يمكن قبولها فى الظروف الطبيعية التى تخلو من الأزمات الكبرى، والتى يمكن للمواطن أن ينادى فيها بالحصول على حقوقه كاملة دون نقصان. وليعذرنى البعض إن قلت إن مثل هؤلاء المغيبين عن الواقع والمنفصلين عن حالة الحرب الشرسة التى تعيشها البلاد يمثلون خطراً على المجتمع وعلى الدولة أيضاً دون أن يعوا ذلك. ومن وجهة نظرى المتواضعة لا يوجد فى حكمى السابق أية مبالغة على الإطلاق. وأتصور أن أعضاء الجماعة الإرهابية التخريبية التى تعيث فساداً فى مصر، وتتسبب فى زيادة حدة مشكلة الكهرباء بأعمال تخريبية دنيئة سوف يسعدون جداً من ردود أفعال بعض المصريين الغاضبة خاصة الُمبالغ فيها، وسوف ينظرون إليها كمؤشر ولو أولى على نجاحهم فى خطتهم الخسيسة لهدم الدولة ومؤسساتها وبنيتها الأساسية، وأن مواقف هؤلاء تعطيهم الحافز على الاستمرار فى تخطيطهم الشيطانى حتى لو أخذ بعض الوقت ليأتى بنتائجه التى ينتظرونها بفارغ صبر وهى ببساطة أن تفشل مصر فى استعادة نفسها وأن تندم على طرد الجماعة الإرهابية من سدة الحكم. وسواء كان هذا النوع من التفكير التخريبى دليل عجز أو نوعاً من الغباء أو عدم فهم طبيعة ما جرى فى 30 يونيو، فلا نملك سوى تحذير أنفسنا من مؤامرات يبرع فيها هؤلاء، وأن نحصن أنفسنا من أن يتساقط البعض منا فى أيدى جماعة إرهابية خسيسة ويقدمون لها خدمات مجانية على طبق من ذهب. لست ضد أن يمارس كل مصرى وفقاً لإمكاناته نمط الحياة التى يريد، بيد أن الأمر ليس بالمطلق، ففى أوقات الأزمات والحروب تصبح الأولوية هى لحماية المجتمع وبقاء الدولة، وتلك بدورها تتطلب نوعاً من التضحية. وكثيراً ما عرفت مصر مثل هذه الأزمات ولم تنجح فى عبورها إلا بالكثير من التضحيات الطوعية من أبنائها المخلصين. وما كان لمصر مثلاً أن تخرج من هزيمة يونيو 67 إلا بتضافر وتماسك المصريين جميعاً، أفراداً ومؤسسات. والقصص والمواقف فى ذلك كثيرة لا تعد ولا تحصى. وأذكر هنا واقعة حدثت فى 1970، حيث انفجر فى شهر مارس أحد محولات الكهرباء الرئيسية التى تمد مدينة الزقازيق باحتياجاتها، وقيل وقتها إنه غير قابل للإصلاح ولا بد من الانتظار مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر لحين وصول محول بديل من إحدى دول أوروبا الشرقية الحليفة لمصر آنذاك. وكان هذا العام بالنسبة لأمثالى مهماً وتاريخياً، فهو عام الحصول على شهادة الإعدادية، والامتحانات باتت قريبة، والمذاكرة أصبحت على أشدها. لا أذكر آنذاك أننى سمعت ضجراً كالذى نسمعه ونقوله الآن، ولا أذكر أن أحداً من أهالى مدينة الزقازيق صرخ أو طالب الحكومة بالتنحى. كانت مصر فى حرب استنزاف مع عدو شرس، والجميع يعى ويقدر أن الأولوية هى للمعركة وللحرب المقبلة التى لم يكن أحد يشك فى حدوثها، وإن كان لا يعرف متى يمكن أن تنفجر. كان على المصريين أن يطوعوا نمط حياتهم مع الحالة الطارئة التى فرضت نفسها عليهم، وكان عليهم ابتداع أساليب حياة تتناسب مع الظروف الحرجة التى يمرون بها. خرج طلاب المدينة إلى الشوارع ما بين العصر والمغرب كل منهم يحمل كتابه بين يديه ليذاكر قدر استطاعته مستفيداً من نور الطبيعة قبل الغروب. وما إن تذهب الشمس وراء الأفق، يعود الجميع إلى بيوتهم ليكملوا رحلة التعلم مع كتبهم على ضوء بسيط يصدر من «لمبة جاز». استمر الحال حوالى ثلاثة أشهر، وأذكرها الآن ومعى ملايين من أهل المدينة الذين عاشوا هذه الفترة العصيبة بكل فخر، لقد تحملنا فى سبيل وطننا، ولم نغضب ولم نهدد. كان وعينا كبيراً وكانت روح التحدى أكبر وأعظم. مفيد لنا كمصريين فى طول مصر وعرضها أن ندرك أننا الآن فى حرب بكل معنى الكلمة، وأن ندرك أن عدونا هذه المرة ليس واضحاً بما يكفى. فهو منا وحولنا. وإسرائيل ذلك العدو التاريخى اللدود والشرس ورغم خطورتها الفائقة، فإن محاربتها أسهل كثيراً من أن تحارب هؤلاء الذين يعيشون بينك وحولك ويخططون لقتلك وتدميرك وإفنائك. مفيد لنا كمصريين أن نعى أن انتصارنا على هذه الحرب الضروس مرهون بتماسكنا وتضامننا، وأن نغير ولو قليلاً أسلوب حياتنا، وأن نخفف بعض ما اعتدناه من أجل أن يستمر بلدنا ومؤسساتنا شامخة وقادرة على البقاء. مفيد لنا كمصريين أن ندرك أن مصر مستهدفة هذه المرة لكى لا تقوم لها قائمة ولو بعد مئات السنين. ومفيد أخيراً أن نأخذ العبرة من دول ومجتمعات كانت يوماً ما قوية وعصية على الأعداء فإذا بها الآن مجتمعات مهلهلة ودول منقسمة ومشرذمة. وإذا أردنا أن نبقى كرقم مهم فى التاريخ المعاصر، فلنرشد غضبنا مما هو طارئ وعابر، وأن نضحى قليلاً. ولعلم الجميع فإننى أكتب هذه المقالة على ضوء خافت، كل شىء حولى مظلم فى انتظار عودة التيار.