«ولفين ياخدنا الحنين»، بالتأكيد يأخذنا إلى حى الحلمية الجديدة بقلب القاهرة، فى أربعينات القرن الماضى، حيث يتنقل «سليم باشا البدرى» بين السراى الفخمة ومصنع الغزل الذى ورثه عن والده، لا يلتفت ل«زكريا»، و«شاهين» وغيرهما من العمال الفقراء الذين يعملون فى مصنعه، والذين بدأوا يزحفون إلى الحى العتيق، فيتنقلون بدورهم ما بين بيوتهم الصغيرة الفقيرة، ومصنع الغزل، والمقهى الكبير الذى يديره ويمتلكه «زينهم السماحى»، الفتوة ذائع الصيت. من محافظة البحيرة يأتى العمدة «سليمان غانم» باحثاً عن ثأر قديم، حلمه الوحيد أن يرى الباشا وقد أفلس ومات بحسرته، ليثأر لوالده الذى تسبب والد الباشا فى موته كمداً، يسعى العمدة خلف الباشا بكل ما أوتى من حيلة ومكر الفلاحين، يتسبب فى طلاق الباشا من زوجته ربيبة الصالونات «نازك هانم السلحدار»، بعد أن يطلعها على السر الذى أخفاه عنها زوجها، وهو زواجه من «علية» ابنة «المعلم بدوى»، تاجر القماش الفقير، تنجب «علية» للباشا ولداً يطلق عليه اسم «على»، ثم تموت، فيما تتزوج «نازك» طليقة الباشا بالعمدة «سليمان»، وتنجب له ابنته «زهرة»، قبل أن تعود مرة أخرى للباشا، فتنجب له ابنها الوحيد «عادل». تتشابك الحكايات، من حب وغيرة وخيانة وزواج وطلاق وحياة وموت، عشاق خائبين، وآخرين محظوظين، قصص حب لا تكتمل، ونهايات حزينة توجع القلوب، أفراح وجنائز، مناضلين وخونة، فتوات وبلطجية، باشاوات وصعاليك، هوانم وعوالم، عمال وصحفيين، وتجار، ورجال أعمال، ورجال قضاء، وفنانين وفهلوية، ضباط، ولصوص، فلاحين سذج وأولاد بلد جدعان، فتيان وصبايا، شباب وشابات، شيوعيين ومصر الفتاة وإخوان مسلمين، وفديين وأحرار دستوريين، انتخابات ومظاهرات، طرابيش وقبعات وعمائم ولاسات، يهود وأقباط، متطرفين ووسطيين، تحولات حادة تختفى معها ملامح الشخصيات، فيما تظل شخصيات أخرى على حالها، لا تغيير يذكر رغم مرور السنين، يجسدون بأفعالهم حقبة مهمة من تاريخ مصر تمتد من أربعينات القرن الماضى، حتى تسعيناته، مع إمكانية المواصلة لو لم يرحل كاتبها المبدع أسامة أنور عكاشة منذ بضع سنوات. الزمان: أول ليلة من رمضان الذى حل فى العام 1987، يفتح المصريون تليفزيوناتهم لتصك آذانهم موسيقى ميشيل المصرى المميزة تتراقص كخلفية لسؤال وجودى سطره سيد حجاب «ومنين بييجى الشجن؟»، تأتى الإجابة فى شطر الأغنية التالى «من اختلاف الزمن»، بالفعل يختلف الزمن، لينقلنا المخرج الرائع إسماعيل عبدالحافظ على أجنحة الدراما الرائعة «ليالى الحلمية»، فى خمسة أجزاء احتلت مساحة لا بأس بها من خريطة رمضان التليفزيونية لخمسة أعوام متتالية، كان يكفى صوت موسيقى العمل الدرامى، وهى تنساب من أجهزة التليفزيون، حتى تخلو شوارع مصر من المارة، الجميع يتسمرون أمام شاشة التليفزيون، ليشاهدوا «يحيى الفخرانى»، و«صفية العمرى» و«صلاح السعدنى»، و«حسن يوسف»، وفردوس عبدالحميد» و«سهير المرشدى»، و«سيد عبدالكريم»، و«هدى سلطان»، و«أحمد مظهر»، و«ممدوح عبدالعليم»، و«هشام سليم»، و«آثار الحكيم»، و«شريف منير»، وعشرات غيرهم ممن لا تتسع المساحة لذكرهم، جميعهم عاشوا بيننا، كما لم تعش شخصيات من لحم ودم، صاروا جزءاً منا، وصرنا نبحث فيهم عن أنفسنا، دون أن نعثر لها على أثر.