لا يبدو أن العراق سوف يخرج من محنته الجديدة آمناً، يحفظ وحدة الدولة العراقية التى تكاد تتداعى إلى دويلات ثلاث، وتتمزق أراضيها تحت وطأة الاكتساح العسكرى الذى قامت به قوات «داعش»، واستولت على هذه المساحات الشاسعة من الأراضى السورية والعراقية، ابتداء من شرق حلب إلى الموصل شمال العراق إلى تكريت والرمادى، لتقف الآن على أبواب بعقوبة عاصمة محافظة ديالى على مسافة 50 ميلاً من بغداد. والواضح أولاً من حصاد الموقف العسكرى أن الجيش العراقى الذى فقد معظم عتاده وأسلحته، يعجز عن الدفاع شمالاً عن منطقة تلعفر جنوب الموصل التى تتعرض الآن لهجوم «داعش»، كما يتعثر فى صد هجوم قواتها جنوباً على مدينة بعقوبة التى تشكل خط الدفاع الأخير عن سامراء أولى مدن الجنوب الشيعى، كما أن قوات الحرس الثورى الإيرانى هى التى تتولى الآن حراسة المراقد الشيعية المقدسة فى النجف وكربلاء من محاولات اقتحامها، ويحاول رئيس الوزراء نورى المالكى بمعاونات ضخمة من إيران تشكيل جيش شيعى خالص من الميليشات الموالية له «جيش الرديف العراقى»، بينما تستعد قوات حزب الله اللبنانى لدخول المعركة بعد التصريحات التى أطلقها الشيخ حسن نصر الله، يؤكد فيها استعداد حزب الله للتضحية بخمسة أضعاف مقاتليه الذين سقطوا فى الدفاع عن نظام بشار الأسد كى يحمى نظام الحكم الشيعى فى العراق! والواضح ثانياً أن رئيس الوزراء نورى المالكى يلح على واشنطن كى تبدأ فى أسرع وقت ممكن عمليات القصف الجوى لقوات «داعش» التى تمددت على هذه المساحات الواسعة من الأراضى، ابتداء من الموصل شمال العراق إلى بعقوبة جنوباً، وتعمل على تحصين مناطق ارتكازها من خلال العتاد الذى استولت عليه من الجيش العراقى، ويقدر الخبراء العراقيون قيمته بأكثر من مليار دولار بينها 70 دبابة. لكن إدارة أوباما تشترط للقيام بعملية القصف الجوى عدداً من الشروط، أهمها موافقة العرب السنة على عملية القصف باعتبار «داعش» واحدة من منظمات الإرهاب، ولهذا السبب جاء وزير الخارجية الأمريكى إلى القاهرة بعد طول تمنع، وبرغم تأكيداته فى القاهرة بأن بقاء حكومة «المالكى» لن يساعد على قيام عراق موحد، لأن «المالكى» أصبح جزءاً من مشكلة العراق وليس جزءاً من الحل، كما أن عدداً لا بأس به من قيادات الشيعة بينهم مقتدى الصدر ومعاونو آية الله السيستانى، المرجعية الشيعية الأعلى فى العراق، لا يستريحون لنهج «المالكى» فى الحكم، ويدركون خطورة استمراره على مصير العراق الموحد، خاصة أن «المالكى» لم يبذل أى جهد حقيقى لاحتواء سنة العراق فى العملية السياسية واستيعاب قياداتهم، على العكس طارد زعماءهم بالاتهامات والمحاكمات، واضطر نائبه السنى طارق الهاشمى الذى صدر ضده حكم غيابى بالإعدام إلى الهرب من البلاد، إلا أن القاهرة عبرت خلال لقاء «كيرى» عن عدد من التحفظات المهمة على عملية القصف الجوى لقوات «داعش». أولها: أن العرب لن يمنحوا الولاياتالمتحدة شيكاً على بياض يمكنها من قصف العراق جواً، وإحداث خسائر ضخمة فى صفوف المدنيين كما حدث فى أفغانستان وباكستان، خاصة أن الأمريكيين يشكون من عدم وضوح الصورة وقلة المعلومات عن أماكن تمركز قوات «داعش». وثانيها: أن العراق يحتاج إلى عملية سياسية شاملة تساعد على إدماج السنة فى نظام الحكم وتعيد للعراق وحدته، بأكثر من احتياجه إلى عملية عسكرية يمكن أن تسفر عن المزيد من تمزيق أوصاله، وتوسيع مساحة الخلاف بين السنة والشيعة، وإشعال حرب ضروس بينهما تتجاوز آثارها أرض العراق إلى كل الشرق الأوسط ومنطقة الخليج. وثالث تحفظات القاهرة على وجهة نظر جون «كيرى»، أن مصر مع موافقتها المبدئية على محاولة لم شمل سنة العراق من خلال مؤتمر يعقد فى القاهرة بالتعاون مع الجامعة العربية والأزهر، يستهدف توحيد مواقف السنة بعيداً عن قوى التطرف المتمثلة فى تنظيمى القاعدة و«داعش» - ترى أنه من الضرورى أن يسبق هذا المؤتمر محاولة مخلصة تبذلها كل الأطراف لإعادة جسور الثقة إلى سنة العراق الذين يعانون من التهميش والإهمال وانحيازات حكومة «المالكى» الطائفية، وربما يتحقق ذلك من خلال تشكيل حكومة وطنية تضم كل الأطياف. والواضح ثالثاً أن الأزمة بين شيعة العراق وسنته تزداد استحكاماً وتصاعداً، وتهدد بحرب أهلية جديدة لا يستطيع أحد حصار آثارها أو حساب نتائجها على مجمل الشرق الأوسط، بعد أن أعلن آية الله السيستانى، المرجعية الشيعية الأعلى فى العراق، فتواه من فوق مساجد كربلاء التى يدعو فيها شيعة العراق إلى أن يحملوا السلاح لوقف هجوم قوات «داعش» الغازية، التى ينتمى غالبيتها إلى السنة وتشكلت فى أحضان تنظيم القاعدة خلال الحرب الأهلية السورية وفى كنف تنظيم «نصرة الإسلام» على وجه التحديد، قبل أن ينفصل التنظيمان بسبب خلافات عقائدية وسياسية أشعلت الحرب بينهما، ومنذ فتوى «السيستانى» يتدفق شيعة العراق على مراكز التطوع بالآلاف يتوعدون «داعش» بحرب ضارية، أغلب الظن أن نتيجتها المحتمة انقسام العراق إلى دويلات ثلاث؛ دولة شيعية فى الجنوب تملك معظم مقدرات العراق البترولية، ودولة سنية فى الوسط فقيرة الموارد والإمكانات تسكنها القبائل العربية، ودولة للأكراد فى الشمال تسيطر على مدينة كركوك التى دخلتها قوات البشمرجة الكردية فى غمار أحداث «داعش»، ليتحقق حلم الأكراد القديم فى أن تكون كركوك عاصمة الدولة الكردية. وهكذا يعود العراق ليصبح مرة أخرى فى مهب ريح عاصفة، يدفع المزيد من دماء أبنائه فى حرب أهلية محتملة، أو يشهد المزيد من الخراب والهلاك والدمار فى عمليات القصف الجوى الأمريكى لقوات «داعش»، التى سوف تطال آثارها لا محالة جموع المدنيين فى المناطق السنية، ليزداد العراق بؤساً على بؤس بعد أن فقد ما يزيد على مليون عراقى فى عملية الغزو الأمريكى، وتم تدمير كل مقدراته على مدار ثمانية أعوام من الاحتلال الأمريكى. ومع الأسف تؤكد كل الحسابات أن العراق سوف يدفع فى جميع الأحوال ثمناً باهظاً من دماء أبنائه، وأن المستفيد الأول من هذه الفوضى هى إيران التى لن تتوانى عن إقحام نفسها فى الشأن العراقى إلى العمق، وتتدخل بقواتها المسلحة فى تحديد مصير العراق. ولهذه الأسباب ربما يحسن بالعرب عقد قمة استثنائية بمن حضر لبحث استراتيجية موحدة تحفظ للعراق وحدته، وتضمن سلامة أراضيه، وتحول دون أن تُمنح واشنطن شيكاً على بياض يسمح لها بالقصف الجوى للعراق دون ضمانات واضحة تحافظ على حياة المدنيين، وتضمن إقصاء حكومة «المالكى»، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تلم من جديد شمل العراق.