قبل أن يخطف بريق حفل التنصيب الرئاسى -فى قصر القبة التاريخى- القلوب والأبصار، إذا بخطاب التنصيب يبهر العقول والأفهام. كان خطاب التنصيب بكلماته المشعة هو وثيقة التأسيس للدولة المصرية الثالثة، بكل هيبتها المستردة، وبكل عنفوان قوتها الصلبة والناعمة. فالخطاب - الوثيقة يؤسس تاريخياً للدولة المصرية فى مرحلة نهوض قومى جديد. وللمرة الثالثة فى قرنين كاملين تنهض الدولة المصرية - من تحت الرماد - كطائر الفينيق الأسطورى، وكأن كل كلمة فى خطاب التأسيس نفخة عفية فى رماد الهوان والتراجع والعزلة الذى عاشته مصر فى السنوات الأخيرة. وبغيابها وانكسار جناحها تركت بغاث الطير يستنسرون بأرضها! كانت المرة الأولى لنهوض الطائر المصرى الأسطورى بتأسيس الدولة المصرية الحديثة فى مطلع القرن التاسع عشر على يد محمد على (1805 - 1849) الذى أدرك بحس استراتيجى فطرى عبقرية الموقع ودوره الوظيفى فى إقامة «الإقليم القاعدة»، الذى تأسس عليه مشروعه القومى لتوحيد العرب فى دولة قوية موحدة، استفز تمددها وتألقها قوى الاستعمار الغربى المتربص فى القرن التاسع عشر، فتآمرت عليها، ونجحت بمعاهدة لندن 1840 فى تقييدها وإعادة تدجينها داخل «قفصها الجغرافى»، لا تخرج منه ولا تتمرد عليه، وظلت رهينة محبسها حتى واتتها فرصة جديدة لبناء دولتها. كانت النقلة الراديكالية الثانية على يد جمال عبدالناصر (1956 - 1970) الذى كان أكثر وعياً بالحتميات التاريخية، وبالدور المقدر لوطنه، وبالقوانين التى تحكم ازدهاره وانكساره. كان عبدالناصر بالوعى، كما كان محمد على بالفطرة، على يقين بأن بناء دولة وطنية حديثة، هو شرط ضرورى لكنه غير كاف لخروج مصر من عزلتها الجغرافية المفروضة بإرادة الخارج وضعف الداخل. وكان مشروعه العربى هو النقيض الموضوعى للمشروع الصهيونى الأمريكى. وكان على أحدهما أن ينفى الآخر أو أن يزيحه عن طريقه حتى ولو بالحرب عليه كما حدث فى يونيو 1967، بعدها عادت الدولة المصرية داخل حدودها وتعترف بأن أوراق اللعبة التى كانت بيدها انتقلت كلها أو 90 بالمائة منها إلى يد أعدائها. وبغيابها انفرط عقد النظام العربى وتمزقت وحداته وصارت صيداً سهلاً لكل طامع، إلى أن أسلمنا نظام ضعيف فاسد ومستبد إلى نظام بغيض جاهل ومأجور أوشك أن يقوض الدولة ذاتها من أساسها، وأن يلغى هويتها، لولا أن ردته عن غيه ثورة شعبية كاسحة فى 30 يونيو 2013، أسست للنهوض الثالث للدولة المصرية فى التاريخ الحديث. وكان خطاب الرئيس السيسى رأس الثورة وقائدها فى حفل تنصيبه هو وثيقة التأسيس للدولة المصرية التى «لا تتهاون مع من يريدون دولة بلا هيبة»، وتعهد فيها الرئيس «بأن المستقبل القريب سيشهد استعادة الدولة المصرية لهيبتها». بين الدول الثلاث؛ دولة محمد على ودولة جمال عبدالناصر ودولة 30 يونيو البازغة، قواسم مشتركة عديدة؛ فقد تشابهت البدايات فى التجارب الثلاث. فكل منها واجهت مقاومة عاتية من قوى تقليدية رجعية محافظة. كان المماليك عقبة كؤوداً فى وجه محمد على وبخلع شوكتهم صار الطريق ممهداً لمشروع بناء الدولة وتحديثها والتفرغ لمجابهة التحديات الخارجية والخروج من قفص الجغرافيا. وبالمثل لم يكن باستطاعة عبدالناصر أن يتقدم خطوة على طريق بناء دولته العصرية التقدمية من دون أن يزيح عن طريقه وبقوة جماعة الإخوان المسلمين ويصفى نفوذها المادى والفكرى. وليس فى مصلحة نظام ثورة 30 يونيو وهو يشرع فى بناء دولته الوطنية الجديدة «أن يتصالح، كما نص الخطاب - الوثيقة، مع من أجرموا فى حقه أو اتخذوا من العنف منهجاً». وفى التجارب الثلاث كان الجيش هو القاسم المشترك الأعظم، فما كان للدولة الحديثة فى عهد محمد على أن تنشأ إلا بجيش وطنى ينصهر فيه أبناء الفلاحين، بعد أن صاروا مواطنين فى دولة لا رعايا فى ولاية تابعة للدولة العثمانية. وفى التأسيس الثانى للدولة المصرية كان الجيش هو الذى قاد حركة التغيير الثورى فى 23 يوليو 1952 وهو الذى انحاز إلى مطالب الشعب فى العدالة الاجتماعية. وفى التأسيس الثالث للدولة كان الخطاب - الوثيقة قاطعاً فى الكشف عن الدور الأساسى للمؤسسة العسكرية الوطنية فى انتصار إرادة الشعب المصرى فى ثورتى الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو. وقد استخلصت الدولتان الأولى والثانية بالتجربة والخطأ قانوناً للهيبة والقوة ينص على أن الخروج من الجغرافيا هو دخول إلى التاريخ، قانون لا يعطل سريانه إلا قوة قاهرة. وقد استلهمت وثيقة التأسيس الثالث للدولة هذا القانون وأعادت نحت معانيه عندما قررت «أن مصر الكنانة أضحى لجغرافيتها تاريخ يتحرك وتاريخها جغرافيا ساكنة». وفى كلمات مسكونة بالقوة موحية بالهيبة مفعمة بالثقة تقرر الوثيقة أن «مصر العربية يتعين أن تستعيد مكانتها التقليدية شقيقة كبرى تدرك أن الأمن القومى العربى خط أحمر، أما أمن منطقة الخليج العربى فهو جزء لا يتجزأ من الأمن القومى المصرى». إذا تهدده خطر ليس بيننا وبين الدفاع عنه إلا «مسافة السكة»!. وفى لهجة عاقلة متوازنة تحمل من القوة أكثر مما تحمل من التنازل وتفتح الخيارات المغلقة، تقرر الوثيقة أن «الدولة المصرية الجديدة لن تسمح أن يكون سد النهضة سبباً لخلق أزمة تعوق تطوير العلاقات المصرية سواء مع أفريقيا أو مع إثيوبيا، فإن كان السد يمثل حقها فى التنمية، فالنيل يمثل لنا حقنا فى الحياة».