مثل رغيف عيش معجون من الذرة المخلوطة بحبات القمح يبدو وجه العم خيرى شلبى، رغيف مرحرح مكوى بنار الفرن البلدى، مفرود ومنبسط دون أى اعوجاج، تمنحه حبات القمح التى خلطت بدقيق الذرة لونه الأسمر الخفيف، فيما تصبغه لفحة النار الهادئة بوهج متدفق يشع من ثنيات الوجه. يتمدد الرغيف بين جبهة عريضة واسعة، وذقن صغير مكور. الجبهة موصولة بالرأس الذى يخلو من الشعر بفعل عوامل الزمن والوراثة، والذقن مستدير يكمل باستدارته دائرة الرغيف البلدى. على جانبى الرأس يظهر الشعر المهوش منفلتاً لا يخضع لأى برامج تهذيب، يضفى عليه لونه الأبيض الفضى مهابة من نوع خاص. تنتهى الجبهة عند حاجبين كثيفين مهوشين بدورهما، صانعين بذلك تناغماً بينهما وبين ما تبقى من شعر الرأس، تحتهما مباشرة تستكين العينان فى هدوء ظاهرى، بينما يشع باطنهما بنور غريب، يظهر واضحاً من خلف زجاج النظارة «قعر الكوباية» التى تشى بسنوات طويلة فى القراءة والكتابة. فيما تستقيم الأنف بين العينين طويلة منتهية بفتحتين واسعتين تقودان لفم كبير دقيق الشفتين، كأنه قطع متعمد فى دائرة الرغيف. خيرى شلبى «العم»، من استحق لقبه لعشرات الكتب والروايات التى أنتجتها قريحته، معينه فى ذلك حياة حافلة عاشها بالطول والعرض، متقلباً بين شقاء مقيم، ونعيم زائل، ثم راح يكتب عنها ويسجلها ممزوجة بخيال خصب شديد التدفق. هو المولود فى عام 1938 بقرية شباس عمير التابعة لمركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ. عاش طفولته فى منزل مزدحم للغاية بالأشقاء والشقيقات، لأب عمل موظفاً قبل أن تجرى عليه سُنة الحياة ويفقد وظيفته فيجلس فى المنزل، ويواجه الدنيا صفر اليدين خالى الوفاض، خلفه أسرة كبيرة وأطفال صغار «زغب الحواصل لا ماء ولا شجر». فى تلك الظروف عاش خيرى طفولته، يتردد على كُتّاب القرية ليتعلم القراءة والكتابة، ويحفظ ما تيسر من سور القرآن الكريم. لا يغادر القرية إلا نادراً، فربما اصطحب والده فى زيارة للبندر يحضران فيها مولد سيدى إبراهيم الدسوقى الملقب ب«أبى العينين»، حيث يستمع هناك بشغف إلى حكايات كثيرة عن الولى صاحب الكرامات القادم من بلاد بعيدة ليستقر فى مصر، تلتصق الحكايات والأساطير فى ذهن الطفل الصغير، فتغزو العقل وترسخ فى تلافيف الذاكرة، يصعب انتزاعها حتى مع دروس الكُتّاب، على العكس تماماً تزاحمها حكايات أخرى راح يتسقطها من فم شعراء السير الشعبية، قبل أن يحترف قراءة تلك الحكايات من مصادرها المكتوبة فاتحاً على نفسه باب العالم الساحر الذى سينجذب إليه بكل كيانه. يتسلل خيرى إلى عالم الكتب مع التحاقه بالمدرسة الابتدائية، ينفتح العالم على دنيا أخرى، خيال يغذى عقل الصغير المزدحم أساساً بالخيالات، يهرب إليه من واقع أليم يعانى فيه وأسرته شظف العيش بعد تقاعد الأب، لا يتوقف الطفل عن التهام كل ما تقع يده عليه، كتب ومجلات وروايات، يطوف المكتبات، ويقرأ من مكتبة والده، ويستعير من زملائه، ويصبح شغله الشاغل بجانب توفير قوت أسرته ومصروفات دراسته، هو القراءة. وسط تفاصيل الحياة القاسية لا بد أن تبرق لمحة ضوء، تتمثل فى نجاح خيرى فى الحصول على شهادة الابتدائية بعد قيام ثورة يوليو عام 1952 ضمن أول دفعة من أبناء القرية تصل لتلك المرحلة التعليمية، ولأن مصاريف الدراسة العالية سوف تقصم وسط الأب الفقير، فكر فى أن يكتفى ابنه بما حصل عليه من تعليم، فيتوظف بالابتدائية إذا توفرت الوظيفة، أو ينخرط فى زمرة الحرفيين، بعد أن يتعلم له أى صنعة. مصير غامض لم ينقذه منه سوى «محمد أفندى حسن ريشة» أستاذ اللغة العربية الذى تتلمذ على يده، راح ريشة أفندى يقنع آباء الطلبة الذين يعيشون ظروفاً تتشابه مع ظروف والد خيرى بضرورة أن يسمحوا للصغار باستكمال تعليمهم، إذ إنه حرام أن تضيع فرصة التعليم العالى على الأبناء بسبب ظروف لا دخل لهم فيها، وحتى يسهل لهم الخطوة التالية، اقترح عليهم أن يلتحق الأبناء بمعهد المعلمين فى دمنهور بمحافظة البحيرة، وهو معهد عالى الدراسة فيه بالمجان، ولا يمكث فيه الطلبة سوى سنوات قليلة يتخرجون بعدها أفندية، ليعملوا مدرسين فى مدارس الحكومة، ويحصلوا على وظيفة مضمونة ترفع من شأنهم وشأن أسرهم. وبالفعل يسافر خيرى وسط أبناء قريته مع ريشة أفندى لمعهد المعلمين بمدينة دمنهور ليتقدموا بأوراقهم إليه، ويتم إجراء الكشف الطبى عليهم فيجتازونه جميعاً بما فيهم خيرى، الذى يزيد عنهم فى شىء واحد، وهو توصية من طبيب المعهد يزيل بها التقرير الطبى «يوصى باستخدام نظارة طبية»، وبالطبع أسقط فى يد الفتى، إذ من أين له أن يأتى بمبلغ 17 جنيهاً قيمة الكشف الطبى والنظارة وحالة والده على ما هى عليه. اسودت الدنيا فى عينيه، وسار من محطة القطار حتى قريته بعد العودة من دمنهور وهو لا يكاد يرى أمامه، وعندما وصل لمنزله وجد ريشة أفندى قد سبقه إلى هناك حاملاً فى يده منديلاً كبيراً مملوءاً ب«الشلنات والبرايز»، أفرغها جميعاً فى حِجر الأب، وعدَّها قرشاً قرشاً لتصبح الحصيلة النهائية 17 جنيهاً بالتمام والكمال، صرّ المنديل وناوله لخيرى قائلاً له: إن أهل القرية تبرعوا له بثمن النظارة، وعليه أن يتوجه لدمياط من أجل أن يشتريها، مد خيرى يده ليلتقط المنديل وهو لا يكاد يصدق نفسه، وظل المشهد ماثلاً أمام عينيه على الدوام «كانت أول نظارة طبية أرتديها فى حياتى، على نفقة أهل بلدتى». هل تصفو الحياة فى المعهد مع ظروف الحياة الصعبة، الواقع أنها تعصر الفتى وتهصره فى وقت واحد، تجتذبه أضواء مدينة دمياط وجلسات الثقافة على مقهى يجلس عليه محمد عبدالحليم عبدالله وأمين يوسف غراب، يتلكأ الفتى أمام المقهى إذ ربما شاهده أحد فيناديه ليجلس معهم، إلا أن ذلك لا يحدث، يحلم بأن يصبح واحداً منهم فيسيح فى عالم القراءة حتى يناله التعب، ثمل لا يلبث أن يجد أفكاراً تلح عليه أن يكتبها، وتحدثه نفسه بإمكانية نشر ما خطت يداه. يتفق مع دار نشر على طبع أولى تجاربه فى الكتابة القصصية، رواية صغيرة تحمل اسم «المأساة الخالدة»، على أن يسدد هو تكاليف الطباعة، يفكر فى طريقة مبتكرة فيعد إيصالات استلام بنسخة الكتاب يبيعها لزملائه وأساتذته فى المعهد، وبعد أن تجتمع النقود معه يذهب لدار النشر ويطبع روايته الأولى ثم يعود ليوزعها على مَن دفعوا ثمنها مقدماً، ورغم ملاحظات أصدقائه المقربين على إنتاجه الأدبى الأول، تصيبه رؤية اسمه مطبوعاً على غلاف الكتاب بنشوة غريبة تملك عليه كيانه، إلى أقصى درجة. على أن للحياة فى أوقات كثيرة تصاريف أخرى، يحدث ما يخشاه الفتى ويشفق من وقوعه، تفصله إدارة المعهد لكثرة الغياب وتحرمه من دخول الامتحان ويجد نفسه فجأة فى الشارع لا يقوى على مواجهة أسرته، وحيداً فى مدينة غريبة لا نقود ولا مأوى، يتجول فى المدينة نهاراً وليلاً دون طعام أو شراب، ملابسه لن تعرف طريق الغسيل، وجسده سينسى شكل الصابون، ينام فى أى مكان، على مقهى، أو فى الشارع، على الأرصفة وفى الخرابات، ويمضى به الحال دون وظيفة أو دخل ثابت أو مكان يريح فيه جسده المنهك. تجربة غريبة للغاية خاضها الفتى بكل جوارحه، عجنته، وشكلت منه إنساناً آخر، زجت به فى عالم المهمشين والصعاليك، ومنحته فرصة العمر لأن يحتك بهؤلاء الناس عن قرب، فيما بعد سوف تشكل تلك التجربة نواة مشروعه الأدبى، فمن هؤلاء سوف يخرج أبطال رواياته المشهورة «صالح هيصة»، و«شوادفى»، و«حسن أبوضب»، و«عم أحمد السماك»، و«فاطمة تعلبة»، وغيرهم العشرات والعشرات ممن صادفهم وعاشرهم فى شوارع دمنهور حيث ساح وصاع سنوات طويلة من حياته، أو حتى فى الإسكندرية عندما قادته قدماه سعياً وراء فرصة عمل ثابتة. بالفعل يحصل خيرى على فرصة العمل، ويستأجر مسكناً من راتبه الشهرى، يستقر ويؤسس مكتبة خاصة فى مسكنه، ويواصل العمل والقراءة والكتابة حتى يتوقف فجأة بعد أن يكتشف أن الطريق لن ينفتح له إلا إذا رحل للقاهرة. ينوى الرحيل ويبيع مكتبته الضخمة ليذهب للقاهرة، وهناك تعاوده مرة أخرى خيبة الأمل والضياع، فيهيم على وجهه مشرداً لا يجد مكاناً يؤيه، ولا فراشاً ينام عليه بضع ساعات فى اليوم، معاناة متكررة جعلت من موضوع النوم وقضاء الليل فى مكان آمن حكاية أشبه بالموال، فيما بعد سيكتب عن تلك المرحلة واحدة من أروع رواياته منحها اسم «موال البيات والنوم»، يكاد الشاب يفقد نفسه تماماً فى القاهرة التى لا ترحم قبل أن يعرف الطريق لجريدة «الجمهورية»، هناك سوف يبتسم له الحظ للمرة الأولى فيحصل على وظيفة محرر تحت التمرين. من «الجمهورية» ينفتح الطريق أمام الفتى عندما يتعرف على كبار الكتاب، لا يزال كما هو، يقرأ بنهم، ويكتب بغزارة، ثم تأتيه فرصة ذهبية عندما تفتح له الإذاعة المصرية أبوابها ليحول روايات كبار الكتاب إلى مسلسلات إذاعية، فيتعرف عليه الوسط الفنى والأدبى، ويواصل عمله بنفس الجد فى الصحافة، قبل أن ينشر عمله الروائى الأول «اللعب خارج الحلبة» سنة 1971. تفتح الرواية الأولى لخيرى الأبواب المغلقة، ها هو أديب شاب يمتلك لغة مختلفة، يكتب عن عالم لا يعرفه سواه، عالم المهمشين والصعاليك وعمال التراحيل، خلق الله فى بلاد الله، «لا يعرف الشوق إلا من يكابده»، ولا يعرف الصعلكة والتشرد إلا من عانى منهما يوماً، لذلك سوف تحتل كتابات شلبى مكانة خاصة فى الأدب، تتأكد مع إصداره لما يقرب من 70 كتاباً ورواية، عناوين ك«فرعان من الصبار»، و«زهرة الخشخاش»، و«بغلة العرش»، و«وكالة عطية»، و«ثلاثية الأمالى»، و«الوتد»، و«موال البيات والنوم»، و«نسف الأدمغة»، سوف تجعل منه كاتباً مهماً، بل إنها ستقوده للفوز بجوائز الدولة «التشجيعية» و«التقديرية»، و«نجيب محفوظ» من الجامعة الأمريكية، و«اتحاد الكتاب»، و«وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى». لن يحصل خيرى على الجماهيرية الشعبية إلا بعد أن تتحول رواياته إلى أعمال درامية، بالتحديد، عندما يقدم المخرج أحمد النحاس روايته «الوتد» فى عمل تليفزيونى تلعب بطولته الفنانة الراحلة هدى سلطان، ويقدم داود عبدالسيد رواية أخرى له فى فيلم سينمائى باسم «سارق الفرح»، ورواية ثالثة بعنوان «الكومى» فى مسلسل تليفزيونى تلعب بطولته إلهام شاهين، ويلعب حسين فهمى دور البطولة فى مسلسل «وكالة عطية» المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه. كان من الممكن أن يواصل خيرى مشروعه، ويستكمل ما بدأه من الكتابة عن ملح الأرض وترابها، عن الناس الغلابة الذين لا يتذكرهم أحد، عن سكان المقابر وعمال التراحيل ومن ينامون على الطوى وهم لا يجدون العيش الحاف، كان من الممكن أن يكتب خيرى شلبى أكثر لولا انتهاء حكايته، نام خيرى ملء جفونه عن شواردها، تاركاً الخلق يسهرون جراها ويختصمون.