جاوز التسعين، يمشى بالكاد، ظهره منحنٍ، التجاعيد غطت ملامح وجهه وقسمته كحدود جغرافية تفصل بين الدول، ملامح تعبر عن سنوات شقاء طويلة، لكنها وضعته على عرش صناعة الفسيخ.. إنه شيخ «الفسخانية». ورغم إصابة يدى الحاج مندوه شعير بمرض الرعاش فإنه يصمم على بيع الفسيخ للزبائن بنفسه، فهو أقدم بائع فسيخ فى مصر ويعتبرونه شيخ الفسخانية. «بقالى 65 سنة باشتغل فى المهنة دى»، بابتسامة يغلب عليها الفخر، يقول الحاج شعير: «أنا عندى محل أثرى فى السوق جوه البلد، فيه صورى مع الفنان سيد مكاوى وقيادات حزب الوفد زى فؤاد سراج الدين باشا، وباشوات كانوا بيكلمونى بالتليفون بنفسهم». لا يهتم شيخ الفسخانية بالحديث معك كثيراً، فهو يعرف جيداً تاريخه فى تلك الصناعة التى اشتهرت بها «نبروه» بالدقهلية، بمجرد أن يرى زبوناً يترك الحديث. يبتسم ابنه أسامة ويستأنف الحديث بدلا منه: «أصل والدى بيحب يشتغل بنفسه، بيتعامل على إنه صاحب الصنعة وهو واخد المهنة من جدى من سنة 1945، أيامها مكنش فيه تراخيص، وأول ترخيص اتعمل كان باسم والدى». يقوم «مندوه» بفرد ورقة ثم يرص السمك عليها ويضع فوقه الملح ويلفه لبيعه للزبون. بامتعاض غطى ملامح وجهه تحدث الرجل التسعينى عن المهنة الآن قائلاً: «السمك الطبيعى اللى بييجى من البحيرة مابقاش موجود دلوقتى كله بقى مزارع، والغش كتير دلوقتى، السباك والمبلط بقوا فسخانية يعرفوا إيه دول عن الصنعة». لكن هناك أصول أساسية لا يمكن الخروج عنها، يشرح الحاج مندوه قائلاً: «التخزين لازم يكون فى أوانٍ خشبية، لأن الخشب بيموت أى ميكروب، ماينفعش الصفيح لإنه بيصدى، وكمان البلاستيك بيتفاعل مع الملح، فى البلاستيك والصفيح البكتيريا بتتوحَّش، كل حاجة فى محل الفسيخ لازم تكون خشب». يلخص شيخ الفسخانية صناعة الفسيخ فى ثلاثة: «السمك الكويس والبرميل الخشب والصنايعى النضيف، سر الصنعة والنجاح اللى ربنا كرم بيه عيلة شعير». ويضيف أن صغار المهنة لا يحترفونها بالقدر الكافى، فهناك تفاصيل فى الصناعة ليسوا على دراية كافية بها. يرفع الحاج مندوه يديه التى ترتعشان بغضب قائلاً: «السمك لازم ييجى من البحر يتملح على طول، لو اتحط فى ثلج يبقى ملهوش لازمة». يشرح الحاج مندوه صناعة الفسيخ التى تبدأ باختيار الأسماك المناسبة، وغسل السمك جيداً بالماء مع التأكد من تنظيف الخياشيم تماماً، ويوضع السمك فى براميل من الخشب، ويرص بطريقة جيدة مع وضع الملح الخشن، الذى يتم شراؤه بجودة عالية، لافتاً إلى أن نسبة الملح تزيد عند ملء البرميل، وبعدها تبدأ مرحلة التخزين بتغطية البرميل بغطاء من الورق. التهوية من الأسباب الرئيسية التى تعتمد عليها جودة المنتج، وهو ما أكده «مندوه» قائلاً: «يربط الفسيخ بشدة لعدم تسرب أى شىء داخله، ويبقى مغلقاً لمدة 21 يوماً فى الصيف و30 يوماً فى الشتاء، ويتم تشغيل جهاز تكييف أو مراوح حسب درجة الحرارة، وبعد انتهاء مدة التخزين يصبح صالحاً للاستهلاك». يؤكد الحاج مندوه أن الصنعة لا تختلف لكن الأمانة والضمير هما سبب شهرة فسخانى عن آخر، ويوجد 9 محلات للفسيخ تحمل اسم عائلة «شعير»، كثير منهم يعملون بمهن أخرى لكن لا بد أن يكون لهم صلة بالمهنة. «أحفادى دكاترة ومهندسين، بس مايمنعش إنهم يعرفوا مهنة أجدادهم»، يشير لابنه أسامة: «عنده معرض سيارات، بس لازم ييجى المحل برضه ويقف معايا».