لا يختلف الأمر كثيراً فى محافظات الوجه البحرى عن نظيرتها فى الصعيد، قد تختلف المحاصيل إذ تنتشر زراعة الأرز والقمح والقطن فيما تتراجع زراعات القصب والبطاطس، لكن أزمة السماد واحدة. يقول أحمد سلام، أحد مزارعى قرية إسطنها الباجور بالمنوفية: «تجار السوق السودة هما اللى بيتحكموا فى الكيماوى بتاع المزارعين، لأنهم بياخدوا حصص رسمية من مصانع الأسمدة، وبيشتروا حصص المزارعين الإضافية، وكمان بيضربوا حيازات بتاع ناس ميتة وياخدوا بيها كيماوى من الجمعيات الزراعية». تزداد الصورة ضبابية عندما تأتى الحصص التى يحصل عليها تجار السوق السوداء على حساب حصص الفلاحين محدودى الدخل، «الغلابة» كما يصفهم «سلام»: «حيل عديدة يلجأ إليها تجار السوق السوداء للحصول على حصص (الغلابة) من الأسمدة التى ارتفعت أسعارها لأكثر من ثلاثة أضعاف دون تدخل من الجهات الحكومية للحد من تلك الظاهرة التى أصبحت معروفة للجميع وشائعة بشكل مبالغ فيه». يستطرد المزارع الخمسينى موضحاً أن «ظهور الحيازات (الوهمية) الخاصة بأصحاب الأراضى من المزارعين المتوفين هى أحدث طرق تجار السوق السوداء للاستيلاء على حصص المزارعين من الأسمدة، فبدلاً من أن تتوزع حصص الشخص المتوفى على ورثته أو من يحصلون على حيازته بعد وفاته، فإنها تظل محسوبة فيحصل عليها الملاك الحاليين لأرضه بعد وفاته، ثم يحصلون على حصص للأراضى ذاتها باسمهم هم، فيحصلون على حصتين من الأسمدة لقطعة الأرض الواحدة وليس حصة واحدة». ويتابع «سلام»: «كل ذلك يتم بالاتفاق مع المسئولين فى الجمعيات الزراعية بالقرى الذين يسهلون لهم مهمة الحصول على تلك الحصص». أحمد عبدالحميد، فلاح من قرية زوير بشبين الكوم، يعانى من أزمة نقص السماد، ويقول: «السوق السودة قائمة على شراء أصحاب محلات بيع الأسمدة حصص المزارعين وإعادة بيعها فى محلاتهم بأسعار مضاعفة لأسعارها الأصلية». ويتهم إبراهيم مسعود، فلاح بقرية قويسنا البلد بالمنوفية، المسئولين عن منظومة توزيع السماد بالفساد ويصفهم ب«الشبكة الكاملة» التى تعمل على «سحب حصص الكيماوى من الجمعيات الزراعية بطريقة أو بأخرى للتربح من بيعها للفلاحين بأسعار مضاعفة، عن طريق تعطيش السوق وتأخير صرف المخصصات من الجمعيات من أجل إجبار المزارعين على الشراء من السوق السودة». «شيكارة الكيماوى بقت زى المخدرات، بندور عليها طول السنة وبرضه مش بنلاقيها»، قالها بوجه شاحب تملؤه التجاعيد وهو يفترش جوالاً بلاستيكياً صغيراً على رأس قطعة الأرض التى يمتلكها على الطريق الزراعى الواصل بين قويسنا وشبين الكوم بالمنوفية عند قرية «زوير»، يجلس الحاج مصيلحى، 58 عاماً، يتذكر سنوات عمره التى قضاها -طبقاً لقوله- فى مهنة الزراعة التى ورثها عن أبيه وجده، التى تحولت الآن إلى عبء يتحمل من يتمسك بها ما لا يطيق، حيث يقول: «الفلاحة زمان كانت سهلة وكان خيرها كتير، وكانت الجمعيات الزراعية بتدور على الفلاحين علشان خاطر تبيع لهم شكاير الكيماوى، ودلوقتى بقينا بندور عليها فى كل حتة ومش بنلاقيها إلا بأسعار مضاعفة، وغصب عننا بنشتريها لأنه ما فيش قدامنا بديل تانى». عربة كارو صغيرة مصنوعة من الخشب، فى وسطها إناء كبير من الألمونيوم يمتلئ بالأسمدة، تتراص بجوارها مجموعة من الجراكن البلاستيكية يحملها عدد من الصبية يقومون برمى السماد بين خطوط قطعة الأرض التى يمتلكها والدهم، التى تبلغ مساحتها ثلاثة أفدنة عند مدخل مدينة الباجور، يقول شقيقهم الأكبر موسى: «نقص الأسمدة أصبحت الأزمة الحقيقية التى تواجه المزارع بسبب ندرتها من ناحية وارتفاع أسعارها من ناحية أخرى، حيث يصل سعر شيكارة اليوريا إلى 180 جنيهاً فى مدخل كل موسم زراعى، ونحصل عليها بالترتيب مع أصحاب محلات الأسمدة فى السوق السودة، بالإضافة لقيام بعض أصحاب الحيازات الزراعية الكبيرة ببيع حصتهم لنا». يضيف الشاب الثلاثينى: «إجبار وزارة الزراعة لنا على عدم زراعة بعض المحاصيل مثل القطن والأرز جعل الأرض ضعيفة وهشة وفى حاجة إلى أسمدة كيماوية وبلدى، ونضطر لذلك حتى نواجه أزمة ضعف التقاوى التى تبيعها الجمعيات لنا». ومن المنوفية إلى الغربية تبقى أزمة الأسمدة، يقول محمود رسلان، أحد مواطنى مدينة طنطا ويعمل مهندساً زراعياً: «العاملون فى مصانع الأسمدة يتعاونون مع التجار فى زيادة حصصهم من الأسمدة على حساب الجمعيات الزراعية مقابل حصولهم على مبالغ مالية كرشاوى». أما محمد موسى، أحد أبناء قرية محلة مرحوم التابعة لمركز طنطا، فيرى أن أزمة السماد تعتبر المسمار الأخير فى نعش الفلاح المصرى، بعد أن تحول إلى إنسان معدم ليس له حقوق عند الدولة المصرية التى بخلت عليه بتوفير «الكيماوى» لأرضه. يقول «موسى»: «عدم توفير الحكومة للأسمدة التى تحتاجها الأرض سوف يأتى بالخراب على الجميع وليس الفلاح فقط، لأنه لن يكون أمام الفلاح سوى اللجوء لاستخدام الهرمونات المسرطنة التى يبيعها التجار فى السوق السوداء لكى يتمكن من إتمام نضج المحاصيل التى يزرعها، حتى يتسنى له مواجهة متطلباته المعيشية». فقر مدقع، وصحة متهالكة، وحياة بائسة امتنعت فيها الدولة عن تلبية حاجات الفلاحين الذين يشكلون القطاع الأكبر فيها، لذلك قرر محمد موسى الرجل الأربعينى عدم الاعتماد على الجمعيات الزراعية فى توفير متطلبات أرضه من الأسمدة الكيماوية والتقاوى واللجوء إلى السوق السوداء: «لأن جودة منتجات وزارة الزراعة ضعيفة ومفعول الكيماوى بقى أقل من زمان، علشان الحكومة عاوزة تلم فلوس وخلاص»، أما الأسمدة التى يحصل عليها من السوق السوداء فهى أكثر جودة ونسبة المادة الفعالة بها مرتفعة، وذلك لأن التاجر يريد أن «يكسب زبون» على حد قوله. «أم نبيل»، التى تعول 5 أبناء بعد وفاة زوجها، معتمدة على قطعة أرض مساحتها فدان و18 قيراطاً عند المدخل الزراعى لمدينة طنطا، قررت هى الأخرى تدبير ثمن شكاير الكيماوى التى تحتاجها أرضها حتى لو اضطرت فى سبيل ذلك إلى تربية «عجل أو اتنين» كل عام لتحقيق ذلك. تقول السيدة الخمسينية: «شيكارة الكيماوى هى عصب الأرض والفيتامينات بتاعتها، ومن غيرها المحصول بيطلع ناقص وملهوش لازمة ومش بيجيب ثمن زراعته، خاصة إن تقاوى الحكومة بقت ضعيفة وبنضطر نشتريها هى كمان من السوق السودة». تضيف: «أحياناً ألجأ لأخذ الحصص المقررة لبعض الحيازات الزراعية من جيرانى الذين يمنحونها لى دون مقابل كنوع من المساعدة لى على تربية أبنائى، وأحياناً كييرة لا أجد أمامى سوى شرائها بسعر السوق السودة لأن الكمية المقررة لأرضى لا تكفى».