المصرى فى طبيعته الأصيلة، محب للحياة، ومسالم وأشياء بسيطة كانت تسعده كجلسة مع أصدقاء أو «تمشية» على النيل، أو الترعة، ساعة العصارى، أو سهره حلوة مع الأحباب فى البيت أو المقهى، أو درس فى مسجد بعد الصلاة، أو حضرة صوفية فى رحاب الصالحين، وقد اعتاد لعقود طويلة أن يترك السياسة لأهلها، وإذا تحدث فيها، فبشكل عابر من خلال نكتة يلقيها، أو نكتة يسمعها، فيفرغ شحنة إحباطه أو غضبه ولا يأخذ الموضوع على محمل الجد. أما فى المرحلة الانتقالية بعد ثورة يناير، فقد تغير الأمر وشعر كل مصرى بأنه أصبح فى بؤرة الأحداث، وأنه صار جزءاً من المعادلات السياسية، وعلى مدى ثلاث سنوات عاش المصريون تقلبات شديدة وحادة جعلت السياسة هى الاهتمام الأول لدى غالبية الناس، ولم يعد الحديث فيها هامشياً أو مقصوراً على نكتة سياسية، يسخرون فيها من حكامهم، ولكن أصبح الحديث مسكوناً بالصراع والمرارة والألم، فقد انقسم المصريون إلى طوائف وتيارات واتجاهات سياسية ودينية، ووصل هذا الانقسام إلى داخل العائلات والبيوت وأحدث شروخاً قاسية، وكان للآلة الإعلامية الضخمة والمتوحشة والمتحيزة أثر كبير فى جر غالبية المصريين إلى أتون الخلافات والصراعات السياسية بكل تهديداتها، ومرارتها، وقسوتها، فأصبحوا ينامون ويستيقظون على أخبار وأحداث مزعجة، وسادت حالات الأرق نسبة غير قليلة من الناس، وتغير المزاج المرح الذى عرف به المصريون إلى مزاج قلق وخائف ومتوتر وغاضب ومتحفز وسريع الاستثارة والاشتباك. ولم تعد هناك مصادر للطمأنة أو البهجة، فالسائد لدى الناس هو حالة من الغموض وعدم اليقين فى المستقبل وانعدام الثقة فى الجميع، إضافة إلى حالة من القلق تجاه لقمة العيش ومصير الأبناء واستقرار الأوضاع، حتى المناسبات التى كانت تحمل قدراً من الفرحة والسعادة، مثل شهر رمضان والأعياد والمصايف لم تعد قادرة على تغيير مزاج المصريين للأفضل ولم تعد قادرة على خلق جو من التسامح والتصالح والتوافق بينهم، ولم تعد قادرة على إزاحة طبقات الحزن والهم المتراكمة، إذ يبدو أن الشروخ عميقة والجراح مؤلمة. وكان يوم الجمعة بشكل خاص يمثل يوم راحة واسترخاء ومناسبة للخروج والتنزه والزيارات واللقاءات الحميمية، حتى هذا اليوم، لم يعد كما كان، حيث أصبح مشحوناً كل أسبوع بأحداث مؤسفة، ومظاهرات، وانفجارات، ومواجهات سياسية حادة، وعزف كثير من الناس عن الخروج فى هذا اليوم، خوفاً من المفاجآت غير السارة التى يمكن أن تواجههم. ومن هنا سادت حالة من الزهق والتشبع السلبى من السياسة والسياسيين ومن برامج التوك شو الساخنة والمشتعلة والمهيجة للصراعات والخلافات، وصار الناس يتوقون إلى لحظات يبتعدون فيها عن كل ما يتصل بالأخبار السياسية، ولكن للأسف تلاحقهم الأحداث وتلاحقهم الأخبار وتلاحقهم التحليلات المخيفة من الخبراء الأمنيين والاستراتيجيين (الذين يملأون القنوات الآن)، فتحكم الخناق حول رقابهم، ولهذا اختفت الكثير من المشاعر الجميلة، واختفت النكتة اللطيفة التى اشتهر بها المصريون وحل محلها تعليقات لاذعة وجارحة وعدوانية على صفحات الإنترنت. ورأينا الشعب الذى يفخر بأنه وضع رئيسين فى القفص خلال ثلاث سنوات يدخل بنفسه قفص السياسة الحديدى ويغلقه على نفسه، ولا يستطيع الخروج منه حتى هذه اللحظة. والناس فى حالة ترقب لانتهاء ذلك الصراع السياسى، وتلك الحالة من الزهق والاختناق والغرق فى بحر السياسة الأسود الحالك، والأمل ما زال يراودهم فى أن تستقر الأوضاع لينصرفوا إلى حياتهم البسيطة المعتادة، وينشغلوا فى مشروعات البناء العامة والخاصة، وتعود اللحمة المجتمعية وحالة المحبة والصفاء كما كانت، وتلتئم الجراح الغائرة.. ولكن كيف ومتى؟.. هذا ما ستجيب عنه الأيام والأحداث المقبلة.. ويبقى الأمل كبيراً فى قدرة الله سبحانه على أن يوفق قادة هذا البلد ومفكريه للبدء فى برنامج بنائى إصلاحى تصالحى يلم الشمل ويداوى الجراح ويوجه الطاقات نحو البناء، ويعيد للمصريين بهجتهم وسعادتهم، ومحبتهم لبعضهم، وللحياة.