الكلام فى السياسة أصبح كالظل الذى يطاردك أينما ذهبت منذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011 وحتى الآن اختفت الموضوعات الأخرى والحكايات، حتى النميمة والدردشة فى سيرة الناس أصبحتا على هامش الجلسات.. فالكل يتكلم فى الحال السياسى للبلد.. ينفعل.. يلقى بالاتهامات هنا وهناك بلا حدود أو مراعاة لأبسط المعايير التى لا يجوز إختراقها أو حتى الاقتراب منها. فى الوقت نفسه تأثرت بشدة العادات المصرية الأصيلة ولم تعد كما كانت، فقد تغيرت ملامحها بعد أن إتسعت دائرة الأحداث السياسية وزادت خطورتها. تفاصيل كثيرة افتقدها المصريون كانت جزءآً من حياتهم، وأصبحوا يحلمون بعودتها، كالخروج مثلا منذ الصباح الباكر يوم الجمعة للاستمتاع بالاجازة وسط الأهل والأقارب أو بصحبة الأبناء فى الأماكن والمتنزهات المختلفة، كذلك التجول ليلاً أو السفر فى أى وقت ومكان دون قلق أو خوف كما كان الأمر قبل 25 يناير.. أمام تلك الأحلام البسيطة، وفى محاولة للتعرف على الحالة المزاجية للمصريين اكتشفنا أنهم «زهقوا من السياسة». وجاء كلام حسام عبد الجليل محاسب خير دليل على هذه الحالة، حيث قال «أنا زهقت من كل حاجة فيها سياسة»، فليس معقولاً أن تتحدث مع كل شخص تقابله فى نفس الكلام بداية من الأسرة والأصدقاء والأقارب وزملاء العمل وانتهاء بسائق التاكسى الذى ينظر إليك فور جلوسك بجواره ليسألك «عجبك ياباشا حال البلد؟ وتكون تلك الجملة بداية لحوار طويل لا ينتهى حتى وصولك المشوار الذى تريده. وعندما تقرر عدم الكلام أو سماع أى شىء عن الأحداث السياسية، وتذهب لمشاهدة التليفزيون تطالعك الفضائيات بمئات البرامج واللقاءات وأحيانا »الخناقات« التى لا تخرج عن نطاق السياسة أيضاً، فأين نذهب إذن لنرتاح ونهدأ من تلك المطاردة السياسية. بينما قالت منى عمران ليسانس حقوق لم تعد ملامح بلدنا كما هى، فقد تغيرت أشياء كثيرة، منها الإحساس بالأمان الذى كان السمة الأساسية لهذا البلد، ومنها أيضا يوم الجمعة الذى نحلم بعودته كما كان قبل 25 يناير، حيث الزيارات واللقاءات العائلية وأحياناً السفر فى الأماكن المختلفة لقضاء الاجازة والراحة من متاعب العمل طوال الاسبوع. والذى لم يعد يحدث الآن نظراً لأجواء القلق والتوتر المحيطة بذلك اليوم. أضافت منى أن الحالة المزاجية العامة صارت بلا طعم وأنها أصبحت ترفض تماماً أى كلام فى السياسة لأنه على حد قولها السبب الرئيسى فى تلك الحالة المزاجية السيئة.. إبراهيم الششتاوى موظف بإحدى شركات القطاع الخاص قال: «نفسى الناس تبطل كلام وتشتغل شوية» حيث إن الكلام فى السياسة على حد قوله أصبح مهنة لمن لا مهنة له، وأضاف أنه يحلم بعودة الاستقرار والأمن مرة أخرى لأنه يفتقد كثيراً التجول فى شوارع مصر فى أوقات متأخرة، كذلك السفر ليلاً على الطرق السريعة هو وأسرته، حيث ان الأجواء السياسية الحالية لا تسمح. نورهان الشناوى طالبة بكلية التجارة قالت: «مش بحب السياسة لأنها غيرت أخلاق الناس» وبصراحة نفسى أعمل أى حاجة تانية غير الكلام فيها، لأنها سبب رئيسى فى حالة الحزن والكآبة التى تعيشها مصر هذه الأيام. الدكتور محمد المهدى أستاذ الطب النفسى فى تحليله لحالة «الزهق» التى أصابت المصريين من السياسة يرى أن المصرى فى طبيعته الأصلية محب للحياة ومسالم وكانت تسعده أشياء بسيطة، كجلسة مع أصدقاء أو «تمشية» على النيل أو الترعة ساعة العصارى، أو سهرة حلوة مع الأحباب فى البيت أو المقهى، وقد اعتاد لعقود طويلة أن يترك السياسة لأهلها، وإذا تحدث فيها فبشكل عابر من خلال نكتة يلقيها أو نكتة يسمعها فيفرغ شحنة إحباطه أو غضبه ولا يأخذ الموضوع على محمل الجد. ويضيف: بعد ثورة يناير تغير الأمر وشعر كل مصرى بأنه أصبح فى بؤرة الأحداث وأنه صار جزءاً من المعادلات السياسية، وعلى مدى ثلاث سنوات عاش المصريون تقلبات شديدة وحادة فى المرحلة الانتقالية جعلت السياسة هى الاهتمام الأول لدى غالبية الناس، ولم يعد الحديث فيها هامشياً أو مقصوراً على نكتة سياسية يسخرون فيها من حكامهم، ولكن أصبح الحديث مشحوناً بالصراع والمرارة والألم. فقد انقسم المصريون الى طوائف وتيارات واتجاهات سياسية ودينية، ووصل هذا الإنقسام الى داخل العائلات والبيوت وأحدث شروخاً قاسية، وكان للآلة الإعلامية الضخمة أثر كبير فى جر غالبية المصريين الى بؤرة الخلافات والصراعات السياسية بكل تهديداتها ومرارتها وقسوتها، فأصبحوا ينامون ويستيقظون على أخبار وأحداث مزعجة وسادت حالات الأرق نسبة غير قليلة من الناس، وتغير المزاج المرح الذى عرف به المصريون إلى مزاج قلق وخائف ومتوتر وغاضب ومتحفز وسريع الاستثارة والاشتباك. ويوضح د. المهدى أيضاً أنه لم تعد هناك مصادر للطمأنة أو البهجة، فالسائد لدى الناس هو حالة من الغموض وعدم اليقين فى المستقبل وانعدام الثقة فى الجميع، بالإضافة الى حالة من القلق تجاه لقمة العيش ومصير الأبناء واستقرار الأوضاع، حتى المناسبات التى كانت تحمل قدراً من الفرحة والسعادة مثل شهر رمضان والأعياد لم تعد قادرة على تغيير مزاج المصريين للأفضل وخلق جو من التسامح والتصالح والتوافق بينهم، ولم تعد قادرة أيضاً على إزاحة طبقات الهم المتراكمة، إذ يبدو أن الشروخ عميقة والجراح مؤلمة.ويشير أستاذ الطب النفسى الى يوم الجمعة الذى كان يمثل بشكل خاص يوم راحة واسترخاء ومناسبة للخروج والتنزه والزيارات واللقاءات الحميمة، هذا اليوم لم يعد كما كان حيث أصبح مشحوناً كل أسبوع بأحداث مؤسفة ومظاهرات وانفجارات ومواجهات سياسية حادة، وعزف كثير من الناس عن الخروج فى هذا اليوم خوفاً من المفاجآت غير السارة التى يمكن أن تواجههم. ومن هنا سادت حالة من «الزهق» والتشبع السلبى من السياسة والسياسيين ومن برامج التوك شو الساخنة والمشتعلة والمهيجة للصراعات والخلافات، وصار الناس فى لهفة إلى لحظات يبتعدون فيها عن كل مايتصل بالأخبار السياسية، ولكن للأسف تلاحقهم الأحداث والأخبار والتحليلات المخيفة فتحكم الخناق حول رقابهم، ولهذا اختفت الكثير من المشاعر الجميلة، وإختفت النكتة اللطيفة التى إشتهر بها المصريون وحل محلها تعليقات لاذعة وجارحة وعدوانية على صفحات الانترنت. ويضيف إن الناس فى حالة ترقب لانتهاء ذلك الصراع السياسى وتلك الحالة من «الزهق» والاختناق والغرق فى بحر السياسة الأسود الحالك، والأمل مازال يراودهم فى أن تستقر الأوضاع لينصرفوا إلى حياتهم البسيطة المعتادة، وينشغلوا فى مشروعات البناء العامة والخاصة، ويقود حالة المحبة والصفاء كما كانت وتلتئم الجراح الغائرة .. لكن كيف ومتى ؟ هذا ماستجيب عنه الأيام والأحداث القادمة. ويبقى الأمل كما يقول د. المهدى كبيراً فى قدرة الله سبحانه وتعالى على أن يوفق قادة هذا البلد ومفكريه للبدء فى برنامج بنائى إصلاحى تصالحى يلم الشمل ويوجه الطاقات نحو البناء ويعيد للمصريين بهجتهم وسعادتهم ومحبتهم لبعضهم وللحياة.