انتهينا فى مقال سابق إلى حقيقة هامة مفادها أن العالم الإسلامى على امتداده زماناً ومكاناً لم يعرف نمطاً محدداً فى التشريع، يمكن إحياؤه وتطبيقه فى مصر المعاصرة، إذ شهدت المجتمعات الإسلامية تعدداً وتنوعاً فى التشريع على الرغم من وحدة مرجعيته. وعندنا أن ذلك يرجع أساساً إلى كون الإسلام هو الدين الخاتم. ومن ثم فمن المستحيل صياغة تشريع ثابت «للعالمين» حتى قيام الساعة. فالأحكام الثابتة لا يمكن أن تعالج قضايا ومشاكل ومسائل مستحدثة تفرزها سنة التغير والتطور. من هنا قدم الإسلام مبادئ عامة لا ينسخها منطق الصيرورة كالإخاء والعدل والمساواة. وفى هذا الصدد تختلف نظرة القرآن عن الرؤية التوراتية التى قننت لأدق التفصيلات والجزئيات التى تحولت إلى «دوجما» لفظها التاريخ. ليس أدل على ذلك من تحريف الأحبار للتوراة وابتداع التلمود والمشنا ونحوها تحت تأثير معطيات التطور. بينما عول المفهوم الإسلامى للتشريع على المرونة والانفتاح والتيسير وما شابه، ولم يجد الخلفاء الراشدون غضاضة فى صياغة أحكام تجارى معطيات الزمان والمكان ومعطيات الواقع؛ فعمر بن الخطاب خالف سابقه أبابكر فى الكثير من الأحكام كما هو الحال فى قضية توزيع الفىء وتوزيع الأرض على جنود الفتح. بل إنه أوقف حد السرقة فى عام «الرمادة». ولعمر قول حكيم هو: «جردوا القرآن، وأقلوا فى الرواية عن محمد (ص)»، لا لشىء إلا لاختلاف الظروف؛ فأحكام «حكومة المدينة» لا يمكن نقلها لإدارة «الدولة الإمبراطورية» التى اقتبس من نظم الفرس والروم لتسيير شئونها. كما اعتمد الأمويون فقه «الأوزاعى» -المتأثر بالقانون الرومانى- للأسباب ذاتها، وتأثر مذهب مالك فى الأندلس بقوانين القوط لمواجهة أخطار الممالك النصرانية. وإذ أغلق باب الاجتهاد خلال عصور الانحطاط تحجر الفقه، وعجز عن مواكبة متغيرات الواقع فى الغرب الإسلامى حيث انشغل الفقهاء المالكية بالسياسة -طلباً للمال والجاه- وتحول الفقه إلى «نوازل» لمعالجة قضايا مستحدثة وكانت معظم فتاوى «فقهاء السلطان» بصددها أبعد ما يكون عن مقاصد الشريعة. وهذا يفسر لماذا لجأت الرعية فى كل إقليم أو مدينة إلى «الأعراف» كبديل عن الفقه؛ كما هو حال «أعمال أهل فاس» و«أعمال أهل قرطبة» على سبيل المثال. ولقد تدهور فى المشرق بالمثل؛ ولجأ جل الفقهاء إلى «الحيل» التى كان بعضها يحلل الحرام ويحرم الحلال! على أن بعض الفقهاء المستنيرين تركوا تراثاً هاماً يتعلق بعلم أصول الفقه يمكن لنا الاسترشاد به فى صياغة قوانين ولوائح تستلهم روح الشريعة الإسلامية، منهم «ابن رشد الحفيد» فى كتابه (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) الذى نقد فقه سابقيه ومعاصريه؛ وعول على العقل فى استنباط أحكام مستمدة من قواعد «الاستصلاح» و«الاستحسان» و«المصالح المرسلة»؛ بما يحقق «مقاصد الشريعة». ومنهم «العز بن عبدالسلام» الذى نصح الفقهاء بمراعاة «صحة الأحكام وتحقيق المصلحة باعتماد العادات والتجارب والأخذ بالعرف.. مع طلب الأدلة»، ونصح ب«نسبية اليقين» ورفض «التقييد وجمود التأويل». أما «الشاطبى» فقد جعل «تحقيق المصالح» عماد اجتهاداته، إلى جانب إبراز دور العقل فى صياغة أحكام تتسق مع معطيات الواقع. واعتبر بعض الفقهاء من أمثال الجوينى والقرافى وابن القيم وغيرهم تحقيق «المصالح» غاية التشريع حتى لو تعارض التحقيق مع ظاهر النصوص الدينية؛ حيث يمكن تجاوز تلك المشكلة عن طريق التعويل على «التأويل».. فهل يعى الداعون إلى تطبيق الشريعة ما قدمه هؤلاء الفقهاء العظام ويتخذون من مؤلفاتهم مرجعية لدعوتهم كبديل لإمامهم «ابن تيمية»؟.. إنا لمنتظرون!