ذات يوم كان طارق حجى يستقل سيارته ويسير فى شوارع مصر الجديدة. وغير اتجاهه فجأة، وذهب بها إلى وسط البلد. «ركن» السيارة واستقل «ميكروباص» وجلس بجوار سائقها، وسأله: «إيه رأيك فى مبارك؟»، فأجاب السائق بإشارة إلى «كِرشه» -بطنه- ولم ينطق بكلمة، ولكن «حجى» فهم ما كان يقصده. وسأله عن الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» فقال: «ده كان نبى!». «والسادات؟» فأجابه السائق مبتسماً: «يااه يا أستاذ، ده كان حلنجى». وفى أقرب محطة، نزل «حجى» وعاد إلى سيارته وانطلق بها من حيث أتى. هذا الحوار الذى دار بين «مفكر» و«سائق»، إن دلّ على شىء فإنه يدل على أن الشعب المصرى، بطبعه، ذكى وفاهم لما يجرى من حوله، وإن من الصعب -إذ لم يكن من المستحيل- «الضحك عليه». هذا ما أراد الدكتور حجى أن يوصله للرئيس المقبل، ليعرف -حسب قوله- أنه جاء ليرحل. وفى الرحيل، سيعرف المجتمع كيف يحاسبه، وفى أى صفحة تاريخ سيكتب عنه. ذهبت «الوطن» إلى المفكر طارق حجى حتى تعرف منه نظام مصر القادم، ورئيسها المنتظر الذى، سيحكمها لفترة. و«حجى» يتميز فكره وقلمه وخلاصة أبحاثه، بمحاولاتهم دفعنا إلى اللحاق بركب التقدم الإنسانى؛ إذ يعمل دائماً على فك وكسر «سجون العقل العربى» التى أصبحت أحد أهم أسباب فشل المجتمعات العربية فى الانطلاق نحو مسيرة العلم. منزله يشبه متحفاً للفنون الجميلة، وأفكاره تأخذنا إلى عالم التقدم والرقى والتطور، وما بين الفنون والرقى، تحدثنا إليه عن الرئيس القادم لمصر، فقال: عليه أن يعلم أن الذين لا يرحلون، لا يُسألون، أما الذين يرحلون، فيُسألون، لقد جاء اليوم الذى سيسأل فيه الشعبُ الرئيس. إلى نص الحوار.. * الرئيس المقبل بعد أيام، كيف تراه؟ - أعتقد أنه سيواجه حقائق، لا يستطيع أحد تغييرها؛ منها أنه من الذين يأتون ليرحلوا يوماً ما، الرئيس فى السابق، كان يأتى ولا يرحل، إلا بالموت، لذلك، فإن الرئيس القادم سيواجه حقيقة دستورية: مدته 4 سنوات، قابلة للتكرار. * هل لهذه الحقيقة تداعيات على المنصب الرئاسى؟ - تداعيات بلا حدود. فى علوم الإدارة التى درستها وأدرسها، مقولة «أن الذين لا يرحلون، لا يسألون. أما الذين يرحلون، فيسألون»، من هنا سيكون عندنا رئيس جمهورية يرحل، ثم نسأله، ويعرف أنه سيكون أمام مشكلة، كانت غير موجودة بالنسبة للرؤساء من قبله. * وما هذه المشكلة؟ - مشكلة القضاء ومشكلة التاريخ. التاريخ لن يمجده فى حياته، والقضاء -إذا كان مخالفاً للقانون والدستور- سيأتى به ويسأله، ويحاسبه مثلى ومثلك. إذن سيواجه الرئيس المقبل حقيقة الرحيل، وما يأتى على هذا الرحيل من تداعيات. وأعتقد أن الرئيس المقبل سيواجه شعباً آخر، غير الشعب الذى سلف. * تقصد الشعب المصرى؟ - نعم. الشعب المصرى مع الرئيس المقبل سيكون مختلفاً؛ والاختلاف هنا يأتى بعدما كسر «فرعنة» الحاكم، وهدم تابوت تأليهه بعد 25 يناير، إلى الأبد. وهو لا يقل أبداً عن إنجاز «رحيل» الرئيس بعد مدته الدستورية. * هل هذا يعنى أن الشعب لن ينافق أو يسامح الرئيس المقبل؟ - طبعاً. أنا أذكر، ذات يوم كنت فى معرض الكتاب ووقف الكاتب الراحل عبدالستار الطويلة -رحمة الله عليه- وقال للرئيس السابق مبارك، أنت تجاوزت مقام «خوفو وخفرع!»، وأنا كنت وقتها موجوداً بالقاعة. أعتقد أن هذا لن يحدث مرة أخرى ولن يجد الرئيس القادم من يقول له ذلك. * لكن ذلك وارد الحدوث، بصورة أو بأخرى، طالما هناك رئيس وفى يده سلطة؟ - أوافقك الرأى. وستكون عين الشعب على الرئيس الذى يسمح بذلك وسيحاسبه عليه. أما فيما مضى، فلم يجد الرئيس -أى رئيس- من يحاسبه. اندهشت يومها جداً من قول الأستاذ عبدالستار الطويلة، لأنه يعلم أن مبارك لم يقرأ كتاباً فى حياته. فلماذا كل هذا؟ * لكن، عندما نقول نحن للرئيس «أنت تجاوزت مكانة خوفو وخفرع» يصبح الخطأ عندنا وليس عنده، أليس كذلك؟ - صحيح. فالخطأ والجرم منّا نحن وليس منه، ولا أحد يستطيع القول غير ذلك. لذلك؛ فأنا أعتقد أن الرئيس الجديد عندما يتعامل مع الشعب المصرى بعد 25 يناير، فإنه سيتعامل مع شعب توقف وإلى الأبد عن «فرعنة» حاكمه. الرئيس القادم لن يرى الشعب الذى كان يجرى وراء القطار. كلنا رأينا الفلاح المصرى وهو يجرى وراء القطار، لأن رئيس الجمهورية، يستقله. وكنت أسأل عندما أرى هذه الصور: لماذا يترك هذا الفلاح أرضه ويجرى وراء القطار؟ هل لأنه كان يريد رؤية الرئيس؟ ربما! هل لأنه «مش» مصدق أن هذا هو الرئيس؟ ربما! * إذن «فرعنة» الرئيس لن تعود مرة أخرى؟ - أعتقد ذلك. والرئيس القادم يعرف هذا، وسيعمل حساب كل خطوة أو قرار يتخذه. * يظن البعض أن الرئيس صاحب الخلفية الإسلامية، سيجد من «يفرعنه» بحكم تدينه. - لا. هذه منطقة أخرى. إذا جاء رئيس إسلامى؛ فإنه سيكون ضاراً على مصر جداً. أنا مذهول -حقيقة- من موقف الإسلاميين من قواتنا المسلحة. وإذا عدنا للتاريخ، سنجد أنه منذ مقتل «حسن البنا» بعد اغتيال الإخوان ل«النقراشى باشا» فى ديسمبر 1948، لم يحصل «الإخوان» على مكانة مثل التى حصلوا عليها على يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة. كانوا فى السجون وفى الجحور و«محظورين»؛ فأصبح لهم حزب سياسى، وأجريت انتخابات وحصلوا ومعهم السلفيون على 75? منها، لكنهم -للأسف- مصرّون على تشويه «سمعة» المجلس العسكرى. وأنا على ثقة، أن الذى يقود الفوضى فى الشارع هم «ضفيرة» من الإخوان والسلفيين. * لماذا؟ - الدوافع مختلفة، السلفيون يفعلون ذلك حزناً على استبعاد حازم صلاح أبوإسماعيل، على الرغم من أنه ليس ذنباً أن خالف القانون ووقع فى الخطأ الذى يعرضه للمحاكمة. * والإخوان لماذا يحدثون أو يشاركون فى «فوضى الشارع»؟ - دافعهم هو الخوف -أو الزعم- بأن الانتخابات ستزوّر، حتى لا يأتى رئيس من غير الإسلاميين. * أليس لديهم الحق فى ذلك الخوف؟ - كلا بالطبع. ألا يكفيكم مجلسا الشعب والشورى؟ وغالباً ستكون الوزارة منكم، ألا يكفى ذلك؟، لتكون هناك تعددية كما تزعمون. وأنا أسأل: لماذا لا يكون رئيس الجمهورية من خارج الإخوان؟ ما المشكلة فى ذلك؟ * لكن الإخوان مصرّون. - هذه خطيئة. وللأسف «الخطيئة» عندهم متسقة مع تاريخهم؛ «النقراشى باشا» كان رئيس وزراء فى غاية النزاهة ومن أفقر رؤساء وزراء مصر فى العهد الملكى، ووجدوا فى «جيبه» عندما مات أربعة جنيهات ونصف، وعلى الرغم من ذلك، قتلوه. * من الذى قتله؟ ولماذا؟ - الإخوان، قتلوه فى البرلمان. ومن قبله أحمد ماهر رئيس الوزراء، الذى يدور الشك حول موته، وهناك من يتهم الإخوان بقتله. وقتلوا النقراشى باشا، لأنه حل جماعة الإخوان المسلمين؛ أذكر تعليق حسن البنا على هذه الجريمة بقوله: «هؤلاء القتلة ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين. إن الرصاصة التى وجهت للنقراشى باشا هى فى واقع الأمر وجهت لى أنا». * وقد كان. - بالضبط. الدولة دبرت قتل «البنا» رداً على دم «النقراشى». وهناك خطايا أخرى للإخوان لا ينساها التاريخ؛ مثل محاولة اغتيال «عبدالناصر» فى المنشية بالإسكندرية. وأنا هنا على ثقة أن الإخوان فى نشوة غير عادية ولا يريدون اليوم معظم «الكعكة» بل يريدون «الكعكة» كلها. * إذن مصلحة «الإخوان» يعرفها «الإخوان» أنفسهم. لكن مصلحة مصر، من يعرفها؟ - مصلحة الجميع «بالبلدى كده، إن الإخوان يلموا الدور، ومعاهم السلفيين»، ويعلموا أن الفوضى، ستؤدى بنا إلى الخراب الاقتصادى والسياسى، وسيفرض الجيش -فى النهاية- الأمن. الموضوع ليس «تهريجاً» وعلى الجميع أن يعلم ذلك وإلا سنجلس كلنا فى المنزل 14 ساعة فى اليوم، ويتكرر ما فعله مبارك فى فبراير1986 أثناء أزمة «الأمن المركزى». * هل تقصد «حظر التجول» أم «لم الدور»؟ - أعنى أن «يلم الإخوان والسلفيين الدور». * لأنهم -حسب قولهم- اقتربوا من تحقيق الحلم، حلم الخلافة؟ - أعتقد أن هذا الحلم لن يتحقق ولن يسمح به لا عالمياً ولا داخلياً؛ فمصر لا تقبل الإسلام المتشدد. الشعب المصرى فى النهاية ضد التجهم والتزمت؛ نحن شعب مرح ووسطى ويريد العيش فى هدوء؛ وعلى من يطالبون بذلك أن يعرفوا أن المصريين يرفضون «النموذج الصحراوى». كانت الخلافة الإسلامية، مواكبة لعصرها، أما اليوم فالوقت تغير، كما أن «الشورى» نظام بسيط، تطور إلى الديمقراطية و«الخلافة» تطورت إلى الدولة المدنية. * قلتَ إن الخارج لن يسمح بإقامة خلافة إسلامية، لماذا؟ - لأن المسرح العالمى لن يسمح بتكرار نموذج إيران، ولو على الطريقة السنية. وكما تعلم، فإن الهم الأعظم لأمريكا هو سلامة إسرائيل، وبالتالى سيحكم الأمر هذا البعد. وفى النهاية، مصر عليها أن تقرر: هل تريد حرباً مع إسرائيل أم سلاماً؟ لأنه لا يوجد طريق ثالث. * فإن كنا نريد سلاماً؟ - إذن عليك ألا تفعل أفعال الحرب * وإذا كنا نريد الحرب؟ - عليك ألا تفعل أفعال السلام. * وهل هذا مطلوب تحديده من الرئيس القادم ونظامه؟ - طبعاً، على القيادة القادمة أن تحدد من البداية؛ هل هى تريد السير فى طريق نهايته حرب، أم طريق آخره سلام. والسلام لا يعنى الاستسلام. * بمعنى؟ - بمعنى، أن اتفاقية الغاز مع إسرائيل كانت «رديئة» لأن هناك «مرتشين» فى الطريق، والمرتشون كانوا من الجانبين المصرى والإسرائيلى. ومصر فى الاتفاقية لا تبيع لإسرائيل مباشرة، ولكنها تبيع لطرف ثالث، والطرف الثالث يأخذ من الجانبين. * وكيف أُبرمت هذه الاتفاقية بهذا الشكل؟ - بسبب تحالف السلطة والمال، أيام مبارك. واليوم أحذر منه، لأن «خيرت الشاطر» اليوم، سائر إلى أن يكون «أحمد عز» آخر، والفرق بينهما -فيما أعتقد- هو «اللحية». * ما وجه التشابه بينهما؟ - التشابه يأتى من النموذج الذى يفرزه تحالف «السلطة والثروة» الخطير، والخطورة مثلما تنطبق على «أحمد عز» تنطبق على «خيرت الشاطر»؛ إنها ثنائية «السلطة والثروة». * لكن خيرت الشاطر -فى رأى الكثير- رجل أعمال ناجح ولديه «مشروع نهضة» وارد تحقيقه؟ - عندما كنت فى موسكو من أيام، التقيت مع مستشرق روسى، وعرض على «برنامج الإخوان الاقتصادى»، وكذلك السلفى؛ فوجدت -أنا والمستشرق- أن مشروع الإخوان، هو مشروع رأسمالى متعمق فى الرأسمالية، وبرنامج السلفيين أقرب إلى الاشتراكية؛ وهذا معناه أن طبقات الإسلاميين الذين مع الإخوان، أغنى من طبقات السلفيين الذين يريدون مراعاة الفقراء والمعدومين. وعلى الجانب الآخر، فإن برنامج «الإخوان» صورة من «لجنة السياسات»؛ فهو يريد المتاجرة، وستترك السعودية وقطر وتركيا، لهم «الحبل على الغارب»، وبالفعل حالياً «خيرت الشاطر» ممثلٌ لمجموعة شركات تركية فى مجال الكمبيوتر. * إذن، القادم اقتصادياً سيشبه الماضى؟ - إلى حد كبير، وسيكون لديك مجموعة رجال أعمال يحتكرون معظم الثروة والاقتصاد. أنا أتعجب من أن يكون برنامج الإخوان بهذه «الرأسمالية» البحتة؛ وهم فى هذا البرنامج يعبرون عن طبقة من المسلمين الأغنياء فقط. * يرى البعض أن نجاح الفريق أحمد شفيق أو عمرو موسى هو إنتاج للنظام القديم؟ - ليس هذا صحيحاً. وأنا قلت ذلك وعلى شاشة التليفزيون. ليس كل من ينتمى للنظام القديم فاسداً، ولا يمكن أن يكون الكل. أنا رأيى أن اللواء عمر سليمان كان ضابطاً يعمل بما يفهمه هو كضابط كبير بالقوات المسلحة. وأحمد شفيق -بلا شك- كان جزءاً من النظام. ولكن أيضا، كان مديراً ناجحاً. * عبدالناصر -كرئيس- كيف رأيته؟ - سيبقى منه أمران: الأول هو الحلم الكبير الذى لم يتحقق، والثانى أنه كان رجلاً شريفاً من الناحية المالية والنسائية. * والسادات؟ - سيبقى فى سجله أنه هو الرجل الذى تجاسر على إسرائيل، على الرغم من أن كل الخيارات العسكرية والسياسية كانت تقول له لا تفعل. عندما سأل السادات «هيكل» عنها، أجاب: «الحرب صعبة ومنقدرش عليها»، لكنه أصر، وقال للسيدة جيهان السادات: «يا إما أحارب أو أموت». و«حرب 73» ليست ضربة جوية، لكنها فى المقام الأول «عبور»؛ ففكرة أن يعبر 100 ألف إنسان ولا يموت منهم إلا أقل من 10?، فهذا معناه أننا أمام معجزة عسكرية. ولكن يؤخذ عليه أنه الذى ألقانا فى حضن الإسلام السياسى، وفتح أمامه مجالين هما الجامعات والنقابات. * وماذا كان هدفه من وراء ذلك؟ - إقامة توازن مع التيار الناصرى؛ فدفع الثمن حياته عندما اغتالوه. سألت السيدة جيهان السادات يوماً: الرئيس السادات قال عام 71 «أنا الرئيس المؤمن ورئيس دولة العلم والإيمان»، وفى عام 81 قال: «لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة» أيهما الصح يا هانم؟ فردت على: «الثانية طبعاً، وكان مخطئاً فى الأولى». * ومبارك.. كيف رأيته رئيساً؟ وكيف كان نظامه؟ - كان رجلاً عديم الثقافة إلى أبعد ما تتصور، ولا يؤمن بالوطنية، وهذه الصورة تعبر عن نظامه. * نعود للسباق الرئاسى ومستقبل الرئيس القادم، هل تعتقد أننا سنعبر لدولة مدنية؟ - طبعاً، هناك مخاوف كثيرة، مصحوبة بإحساس أن المجتمع يواجه خطراً بالفعل. لكننى دائما أثق فى مصر، لأنها لا تقبل تغيير هويتها. * لكن الخيارات أمام الشعب محدودة؟ - هذه هى المشكلة؛ ضاقت الخيارات، فلم يعد أمامنا إلا أسماء محدودة، أحمد شفيق مثلاً أو عمرو موسى، خصوصاً بعد خروج البرادعى وزويل وهما كانا من أفضل الخيارات المطروحة. * لماذا تشير إلى «شفيق» و«موسى» بالتحديد؟ - أحمد شفيق مدير ناجح، وعمرو موسى من أشد أنصار الدولة المدنية. * لكن عليهما مآخذ بالنسبة لكثيرين؟ - أنا أعلم هذا؛ لكنك جعلت الخيارات أمامى ضيقة ومحدودة.