التطورات الداخلية تستغرقنا عن تغيرات جذرية تجرى فى دوائر الأمن القومى الخارجية، رغم أن الفارق بين «المحظورة» و«الإرهابية» على نطاق الداخل أقل أهمية بكثير من الفارق بين استقرار الخليج واضطرابه، وأن القرارات الوزارية لا تحدث أثرها إلا بقوة الحكومات وفاعليتها.. الولاياتالمتحدة دفعت الإخوان للحكم، لينفذوا مخطط تفتيت المنطقة، وعندما سقطوا وتأكدت من عجزهم، فاجأت حلفاءها بالاتفاق مع إيران، بعد تعهدها بضمان أمن إسرائيل وسلمية البرنامج النووى، مقابل عدم المساس بمصالحها فى العراق وسوريا ولبنان، خطة الانسحاب الأمريكى من أفغانستان تنفذ بنفس سيناريو ما تم بالعراق، دون ضمانات لاستقرار الحكم أو أمن المواطنين، ودون أن تقدم لحلفائها بالمنطقة ما يؤكد استعدادها لدعمهم، أو الدخول فى مواجهة دفاعاً عن مصالح مشتركة، تصريح «أوباما» بأن بلاده «ستحقق اكتفاءً ذاتياً من النفط خلال سنوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة» يعكس تراجع أهمية الخليج، وعدم ممانعته فى أن يتحول إلى بؤرة اضطراب بما يحد من تدفق البترول للقوى الدولية المنافسة لأمريكا.. البحث عن حليف استراتيجى بديل أصبح الشغل الشاغل لمتخذى القرار فى دول مجلس التعاون الخليجى، وإعادة ترتيب الأوضاع بالمنطقة تطرح العديد من البدائل والسيناريوهات. ■ ■ أولاً: سيناريو الاتحاد الملك عبدالله، حاكم السعودية، أطلق فى قمة الرياض ديسمبر 2011 دعوته «من التعاون إلى الاتحاد»، تحمست البحرين للفكرة، الكويت والإمارات وقطر لا تزال تدرسها، لكن سلطنة عُمان عارضتها؛ لأنها من وجهة نظرها تستهدف مواجهة إيران التى تراها صديقة وليست مصدراً للتهديد، حتى إنها استضافت المفاوضات السرية المتعلقة بالاتفاق النووى بين إيران والمبعوثين الأمريكيين ويليام بيرنز وجيك سوليفان منذ مارس 2013، تباين المواقف يعنى أن التمسك ب«الاتحاد» قد يؤدى لانفراط عقد «التعاون». القمة الخليجية 34 بالعاصمة الكويتية 11 ديسمبر 2013 حاولت لحلحة الموقف العمانى بإقرارها إنشاء قيادة عسكرية موحدة وجهاز للشرطة الخليجية، إحياءً لاقتراح «قابوس» فى قمة الكويت ديسمبر 1991 ببناء قوة دفاع مشترك قوامها 100 ألف جندى من مواطنى دول المجلس الست، لكن المتغيرات السياسية التى طرأت منذ ذلك الحين، ودفعت عُمان لرفض صيغة «الاتحاد» و«مقترح العملة الخليجية الموحدة» قد لا تُخرج المشروع الجديد إلى حيز التنفيذ. ثانياً: سيناريو اتفاقات التعاون الثنائى اتفاقات التعاون الثنائى من البدائل المطروحة، أهمية المنطقة وثروات دولها تدفع الجميع للتجاوب.. ربع الإنتاج العالمى من النفط والغاز، ثلث الاحتياطى العالمى، وبقدوم عام 2030 ستكون دول مجلس التعاون الست مجتمعة سادس أكبر اقتصاد فى العالم، وفقاً ل«إدموند دى سيلفيان»، رئيس مجموعة «ميد» البريطانية، فى كتابه «الخليج الجديد The New Gulf».. اتفاقات التعاون الثنائى تعكس منافع متبادلة، لكنها بالتأكيد لا تكفل الأمن عند مواجهة مخاطر جدية.. وهناك ثلاث دول تحظى بالأولوية: 1- فرنسا: تعتبر هى الاختيار الاستراتيجى الأول.. ترتبط بمعاهدات دفاع مشترك مع كافة دول المجلس باستثناء عُمان، فى مفاوضات جنيف حول البرنامج النووى الإيرانى اعتبرت الرياض باريس بمثابة الناطق باسمها؛ لأن مواقف الدولتين متطابقة بشأن الموقف من إيران وتسليح المعارضة السورية، السعودية والإمارات دعمتا فرنسا فى تدخلها ضد مجموعات «القاعدة» فى مالى حفاظاً على دورها كقوة دولية، لفرنسا قاعدة عسكرية فى أبوظبى، والسعودية وقعت صفقتى تسليح، الأولى ست فرقاطات «فريم» الأكثر تطورا فى العالم، وست غواصات بتكلفة 10 مليارات يورو، والثانية تطوير وتحديث شبكة الدفاع الجوى السعودى ب4 مليارات، وجار التفاوض حول صفقة مروحيات وقاذفات وصواريخ لتصل الصفقة إلى 20 مليار يورو. 2- بريطانيا: مقر قيادة البحرية البريطانية فى الخليج يقع بالبحرين، وطائرات سلاح الجو الملكى البريطانى «تورنادو» تتمركز بقاعدة المنهاد البريطانية جنوبى دبى، وطياروها بالرياض يدربون السعوديين على استخدام طائرات «التايفون» فى إطار صفقة تشمل 72 مقاتلة، مفاوضات لصفقات مماثلة مع عُمان والبحرين، وتدرس قطروالكويت صفقات مماثلة، الأكاديميات البحرية فى قطروالكويت تم تأسيسها على غرار الأكاديمية العسكرية الملكية فى ساندهيرست وأسندت إدارتها لبريطانيا التى تشارك بقوة فى تطوير الصناعات العسكرية الإماراتية. الجنرال سير ديفيد ريتشاردز، رئيس الأركان البريطانى، أكد أنه «بعد أفغانستان، سيصبح الخليج الجهد العسكرى الرئيسى لنا». 3- ألمانيا: الحكومات الألمانية المتعاقبة حاولت تقييد صادرات الأسلحة للحكومات غير الديمقراطية، لكنها تحت ضغط هيئات الصناعة وافقت على استخدام مبيعات الأسلحة كأداة لتأمين احتياجاتها الاستراتيجية من المواد الأولية والوقود ومصادر الطاقة؛ لأنها تضمن قدرة الطرف المتلقى على الدفاع عن ثرواته وتأمين استقراره، الصادرات الألمانية من الأسلحة لدول الخليج تتضاعف بمعدلات متزايدة، 570 مليون يورو عام 2011، ارتفعت إلى 1٫42 مليار يورو عام 2012، مرشحة لزيادة أكبر عام 2013، السعودية تخطط لشراء خمس غواصات 209 ب2٫5 مليار يورو، ضمن صفقة 25 غواصة ب12٫5 مليار، وأبدت اهتماما بشراء زوارق دورية ب1٫5 مليار و800 دبابة «ليوبارد 2» ب8 مليارات، إضافة إلى مدرعات «دنجو» و«بوكسر».. وقطر تسعى لشراء 200 دبابة «ليوبارد 2» بمليارين. ثالثاً: حلف الناتو ومبادرة إسطنبول وجّه الحلف تلك المبادرة عام 2004 لدعم دول مجلس التعاون الخليجى، لكن ما عرضه من ضمانات كان هزيلاً، لا يزيد على ما يتحقق من خلال اتفاقيات التعاون الثنائى، أما مبدأ «الدفاع المشترك» فهو يقتصر وفقاً للمادة «5» من الميثاق على الدول الأعضاء، وبالتالى فهو غير متاح لدول الخليج، السعودية وعُمان رفضتا المبادرة، أما الكويت والإمارات وقطروالبحرين فلم تستفد سوى بتعاون محدود فى مجال تبادل المعلومات، مسئولو «الناتو» اجتمعوا بأبوظبى عام 2009 وسفراء الحلف اجتمعوا بالدوحة عام 2011 لإحياء المبادرة، لكن دون جدوى. رابعاً: سقوط الشريك التركى كانت تركيا إحدى الدول التى تتنامى علاقاتها بدول الخليج فى شتى المجالات حتى أصبحت من بين الدول الأكثر تأثيراً فى المنطقة، غير أن هذه العلاقات قد تراجعت على نحو ملحوظ، التأييد التركى للإخوان، ومعارضتها للثورة الشعبية فى مصر، فتحا أراضيها أمام أنشطة التنظيم الدولى، السماح باستقبال المطلوبين فى قضايا إرهاب بمصر، تحمسها للاتفاق النووى الإيرانى، تنامى العلاقات السياسية مع طهران إلى حد توقع زيارة «أردوغان» لإيران يناير 2014، التعاون فى مجال المخابرات.. كل ذلك أبعد تركيا عن دائرة الاهتمام الخليجى، ودفع دوله إلى الحد من استثماراتها فيها. خامساً: مصر.. وأمن الخليج الدفاع عن أمن الخليج جزء رئيسى من الاستراتيجية الوطنية لمصر الحديثة، الجيش المصرى لم ينتقل خارج حدود الوطن فى مهام قتالية إلا مرتين، الأولى فى اليمن عام 1962، الاستعمار البريطانى يحتل الخليج وجنوب اليمن، الدعوة للتحرر الوطنى تدغدغ المشاعر، حالة من المراهقة الثورية دفعت بالشقيقين المصرى والسعودى للتناقض، تجاوزاه بعد نكسة 1967، الثانية خلال حرب تحرير الكويت عام 1991. المتغيرات الدولية والتهديدات الموجهة لدول المنطقة تفرض على مصر ودول الخليج إعادة النظر فى صياغة الأمن القومى المشترك من منظور استراتيجى: 1- ثلثا إنتاج دول الخليج من النفط يمر من مضيق هرمز إلى باب المندب ثم قناة السويس؛ لذلك فإن مصر ودول التعاون الخليجى تجمعها منطقة جغرافية مشتركة لا يجوز التعامل مع أمنها إلا كوحدة واحدة. 2- أهمية تحقيق التكامل بين الصناعات الاستراتيجية فى مصر ومثيلتها فى دول الخليج. 3- أن الاحتياطات النقدية لدول مجلس التعاون الخليجى اقتربت بداية 2013 من 800 مليار دولار، معظمها سعودية، وعلى هيئة ودائع بالبنوك الغربية، ما يكشف من مخططات ضد دول المنطقة، وتجارب العرب مع تجميد الأرصدة وقت الأزمات تفرض إعادة توزيعها وتوظيف بعضها بشكل يعظم عائداتها ويؤمّنها ضد الاستغلال السياسى. 4- أهمية السوق المصرية الكبيرة لاقتصادات دول الخليج التى بدأ إنتاجها يتجاوز قدرات أسواقها الاستهلاكية. 5- القوات المسلحة المصرية وأجهزتها الأمنية هى الوحيدة بالمنطقة القادرة على التصدى للمخاطر والتهديدات التى تتعرض لها دول الخليج، دون تطلع أو أطماع. 6- أن عدم تدخل إيران فى دول المنطقة، وتسوية مشاكلها المعلقة مع دول الخليج، يمثلان شرطاً لأى تعاون عربى - إيرانى مثمر، وذلك واحد من المحاور الرئيسية التقليدية لسياسة مصر الخارجية، لم يتعرض لأى استثناء إلا خلال حكم الإخوان الذى أطاح به الشعب لخروجه عن المسلمات الوطنية والقومية. ■ ■ رسائل صريحة وأطراف خيوط.. انشغل المسئولون عنها بهموم الداخل، أرجو ألا يلتقطوها بعد فوات الأوان!!