الذى عاش مثلى مع رجال فاقوا الوصف فى التجرد والزهد والاقتراب من مراتب المروءة، لا يوافق على أن يقبل ما نشر فى جريدة «الوطن» بتاريخ 19 ديسمبر 2013، من أن النواب الذين كانوا أعضاء فيما يسمى «البرلمان الإسلامى» قد قاموا بالاقتراض من البرلمان بعدد يفوق الوصف ثم امتنع الكثيرون منهم عن السداد، حتى وصل عدد الممتنعين إلى مائة وعشرة من الأعضاء، ولم يعلن واحد منهم تكذيب هذا الخبر، بل قد برره البعض بأسباب لا تليق، فلم أكن أتخيل أن الذين جعلوا هدفهم هو تطبيق الشريعة الإسلامية يتهافتون على الاقتراض من خزينة مجلس الشعب بهذه الصورة التى تثير التساؤل، وبالطبع فأنا لا أقول إن الاقتراض من مجلس الشعب هو إثم مبين ولكنه ميزة أباحها لهم القانون يلجأ إليها عضو مجلس الشعب للحفاظ على مظهره المادى والأدبى إن احتاج إلى ذلك، وعلى أن يسدد هذا الالتزام فى المدة التى قررتها اللائحة. وأنا كمواطن ينتمى ويدافع عن الفكرة الإسلامية لا أوافق على هذا السلوك حتى ولو كان مباحاً. هذا من ناحية الاقتراض، أما من ناحية امتناع هؤلاء عن سداد هذا القرض فهو أمر يصل إلى حد المقامرة المستمرة بمصداقية الفكرة الإسلامية، ذلك أن الأمر قد فاق الحد، فما الذى يدفع هؤلاء إلى أن يضعوا أنفسهم فى هذا الموضع وتحال أوراقهم إلى النيابة العامة أو يتم تهديدهم بذلك؟ وهذه المخالفة الجسيمة لا تتعلق بأشخاص من خالفوا وإنما تتعلق بحق الإسلام علينا، فقد أصبحنا والناس يتندرون عن علاقة السباب بالإسلام، وعلاقة التظاهر العنيف بالإسلام، وعن علاقة الضرب والقتل والحرق بالإسلام، ثم ها هم الآن يتساءلون عن علاقة التكالب على أموال مجلس الشعب بالإسلام، وكأن الأعضاء الموقرين قد أغناهم هذا القرض الهزيل الذى لا تتعدى قيمته الثلاثين ألفاً من الجنيهات، فانهالوا عليها بنسبة وصلت إلى 25% من عدد الأعضاء، وذلك فى الأشهر الأولى لعضوية البرلمان، ثم تصدر المحكمة الدستورية حكمها بحل البرلمان فيمتنعون عن سداد أقساط القرض، ولا يضعون فى اعتبارهم أنهم فرضوا أنفسهم على الشريعة السمحاء ونصبوا من ذواتهم رموزاً للدفاع عنها، ما تسبب فى فتنة البسطاء. وقد سألت موظفاً فى إدارة البرلمان عن أسماء الذين قاموا بالاقتراض من الرموز الإسلامية، فاصطدمت بأن واحداً منهم لم يكن يعانى الفاقة ولا الحاجة، بل إن معظمهم فى ترف من العيش، وكان الأجدر بهم أن يترفعوا بأنفسهم عن استخدام هذا الحق، أما إذا ما استخدموه فكان عليهم الوفاء بالدين دون أن يتطلب الأمر التلويح بإحالتهم إلى النيابة العامة أو إحالتهم بالفعل من أجل ذلك، فصعب على الذى عاشر الأستاذ الزاهد عمر التلمسانى أن يقبل هذا الخبر أو أن يوافق على هذا الفعل، ذلك أن هذا الرجل الزاهد الذى ينتمى إلى أسرة عريقة غنية بالأخلاق والأموال مات ومعاشه من نقابة المحامين لا يزيد على سبعة وستين جنيهاً، وقد حاول الأستاذ أحمد الخواجة، نقيب النقباء (رحمه الله)، أن يمنحه زيادة استثنائية هو ومجموعة من الزعماء تكريماً له، مثل فؤاد سراج الدين ومجموعة من قادة العمل الوطنى، وحينما ذهبت إلى الأستاذ عمر التلمسانى بالخبر، وقد كنت عضواً فى نقابة المحامين وقتئذ، فنظر إلىّ (رحمه الله) نظرة عتاب وهو يلومنى قائلاً: «أتبدأ حياتك النقابية بالاستثناء؟! إذن فكيف تنهيها؟». وقد كنت أذكر أيضاً من أقوال الأستاذ عمر التلمسانى (رحمه الله) ما كان ينصحنى به دائماً بأن الداعية عليه أن يتنازل عن ثلاثة أرباع حقوقه ما دام قد اصطف مع أصحاب المبادئ، فعليه أن يكون منهم. ولم يكن للأستاذ عمر التلمسانى (رحمه الله) سيارة خاصة، ولكن كان يستعمل سيارة أثناء حياته أهديت له فرفض أن يتملكها ووافق على مجرد الانتفاع بها فى الذهاب من منطقة الضاهر إلى شارع سوق التوفيقية، الذى كان به مقر مجلة الدعوة، وقد قمت بنفسى بإعادتها إلى أصحابها عقب وفاته (رحمه الله). الخلاصة أن من عايش مثل هذا الرجل يكون من الصعب عليه أن يتعايش مع المتهافتين على القروض والممتنعين عن سدادها والمضحين بسمعة دعوتهم من أجل عَرَض قليل، وكذلك من الصعب على من كان مثلى ممن عايش أستاذ الأساتذة والرمز اليسارى المعروف المرحوم أحمد نبيل الهلالى، الذى ينحدر من أسرة يعلم الناس عنها رفعة شأنها وكثرة مالها وكان أبوه رئيساً للوزراء، أما الأستاذ المحامى أحمد نبيل الهلالى فقد اختار أن يعيش مع الفقراء يأكل من أكلهم ويعيش حياتهم، فكان أول ما فعل هو أن تنازل عن ثروة أبيه، الذى كان رئيساً لوزراء مصر، ثم وهب المرحوم أحمد نبيل الهلالى عمره كله للدفاع عن أى عامل يظلم فى أى بقعة من بقاع الأرض أو أى فلاح يدهس فى زحام المدينة، وكان يقف ليشير إلى عشرات من السيارات الأجرة، مثله مثل أبسط المواطنين، وهو سعيد بذلك، وفى كل شتاء تراه يرتدى على جسده النحيف ذات «البالطو» الذى يرتديه فى كل عام، وكان المحامون يطلقون عليه اسم «القديس»، فلا أرى أحداً نشأ فى عائلة فى مثل ثراء عائلة أحمد نبيل الهلالى ثم مات فى زهد أحمد نبيل الهلالى إلا واحداً فقط هو أحمد نبيل الهلالى نفسه، ولولا المساحة المخصصة لهذا المقال لقدمت لأبناء الجيل المئات من أصحاب التجرد والعزيمة من أبناء الشعب المصرى، فقد ظلم المؤرخون المصريون هذه الأسماء العظيمة المتجردة فى حب مصر. وهكذا أيها الإخوة القراء، يستحيل على من كان مثلى أن يقبل هذا التطبيق المريض الذى أساء إلى الفكرة الإسلامية. ولا أنسى إصرار رئيس مجلس الشعب السابق على الاحتفاظ بسيارته رغم الحكم بحل البرلمان، كما لا أنسى إصرار أعضاء هذا البرلمان على الاجتماع فى البرلمان رغم حله واستخدام قاعاته وأضوائه، ولا أنسى ذلك التكالب على البَدَلات، وما كان يفعله الكثيرون منهم من تدوين الأسماء فى كشف الحضور فى بعض الجلسات للحصول على مكافآت هذه الجلسات رغم أنهم كانوا من الغائبين عنها. وقد يقول قائل إننى أصب جام غضبى على بضعة ملايين قد أخطأ بعض الإخوان أو السلفيين فى التعامل الشرعى معها، فماذا عن المليارات التى سرقها الآخرون ولا أتحدث عنها؟! وإلى هؤلاء أقول إن هؤلاء قد سرقوا تحت أى شعار إلا أن يكون هذا الشعار «الإسلام هو الحل».