(1) فى بداية السبعينات من القرن الماضى، وبعد وفاة المستشار حسن الهضيبى، المرشد الثانى لجماعة الإخوان المسلمين، اجتمع خمسة من قيادات الجماعة هم: مصطفى مشهور، أحمد حسنين، كمال السنانيرى، حسنى عبدالباقى، وأحمد الملط، وذهبوا إلى المهندس حلمى عبدالمجيد وطلبوا منه أن يكون مرشدا عاما للإخوان، بناء على توصية المستشار الهضيبى.. رفض الرجل وقال: لا أستطيع أن أجلس على مقعد جلس عليه الأستاذان البنا والهضيبى، لكن إن شئتم أدلكم على من يقبل.. دلهم فعلا على رجل يدعى الشيخ/ محمد مرزوق.. ذهبوا إليه وعرضوا عليه أن يكون مرشدا.. وافق الرجل، لكنه اشترط عليهم أن يظل الأمر سرا، فقبلوا.. انطلق هؤلاء الرجال داخل مصر وخارجها ليأخذوا البيعة من الإخوان للرجل.. منهم من قبل، ومنهم من رفض.. وكانت حجة الرافضين أنهم لا يبايعون «مرشدا سريا». فى تلك الأثناء، كان الأستاذ عمر التلمسانى يتحرك على كافة الأصعدة والمستويات وفى طول البلاد وعرضها، لينافح عن دعوة الإخوان ويزيل عنها ما علق بها من شوائب خلال الخمسينات والستينات.. والحقيقة أن الرجل كان موفقا غاية التوفيق، وأدى أداء رائعا، وذلك لما كان يتمتع به من خصائص وسمات.. فقد كان رحمه الله ذا رؤية واضحة، وقدرة على الأخذ بزمام المبادأة والسباحة ضد التيار، فضلا عن خلق قويم، وأدب جم، ولسان عف.. شهد بذلك الكارهون قبل المحبين. توفى الشيخ/ محمد مرزوق، «المرشد السرى» بعد قليل من توليه منصبه، وكان الأستاذ التلمسانى قد احتل مكانته على المستوى العام، فارتأت قيادات الجماعة توليته منصب المرشد.. وقد كان. (2) فى تلك المرحلة التى تولى فيها الرئيس الراحل السادات أمور البلاد، كانت الظروف مهيأة لانطلاق العمل الإسلامى، تحت قيادة الأستاذ عمر التلمسانى.. فكما كان للرجل دوره فى تنقية وتصفية الأجواء بين الإخوان وبين نظام الحكم ومؤسسات المجتمع المدنى، كان له دوره المبدع أيضاً داخل الإخوان، وذلك من خلال شخصيته القوية، وثقافته العالية، وبصيرته النافذة، ودماثة أخلاقه، فضلا عن صدقيته وشفافيته وإيمانه الكبير بالشورى.. أظن أن لقاءه الشهير بالسادات فى الإسماعيلية عام 79 كان كاشفا ومعبرا بصدق عن شخصية الرجل.. ومن شجاعته ونبله ووطنيته، أنه كان يرفض بشكل حاسم وقاطع الهجوم على نظام الحكم وهو خارج مصر.. عارض اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام بكل شراسة وضراوة، وقد كلفه ذلك الاعتقال مع رموز العمل الوطنى عام 1981.. كان يجتمع بنا فى مكتب الإرشاد، فيطرح جدول الأعمال، ولم يكن يدلى بدلوه حتى يستمع إلى كل الآراء، فإذا كان هناك إجماع على رأى، ألزم به نفسه.. وكان يستشهد فى ذلك بقول النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وعمر رضى الله عنهما: «لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما».. فى أثناء مغادرته مطار القاهرة أو عودته إليه، كان يحلو لضباط أمن المطار أن يستوقفوه ويأخذوا جواز سفره ويستبقوه لديهم فترة من الوقت، من باب التضييق.. ولم يكن الأستاذ التلمسانى ليعترض أو حتى يبدى تبرما، بل كان يبتسم للضباط، وينتحى جانبا ويتخذ مقعدا، ثم يخرج مصحفه ليقرأ فيه ما شاء الله له أن يقرأ.. بعد فترة تطول أو تقصر، يأتيه الضابط بالجواز مشفوعا باعتذار منه، فيشكره الأستاذ التلمسانى برقة وحنو.. وقد كان هذا سمته دائماً، لدرجة أن ضباط المطار كانوا يزنون تصرف أى من الإخوان على تصرف التلمسانى، فهذا من الإخوان أما ذاك فلا.. أذكر أن المستشار المأمون الهضيبى كان مسافرا، وعندما أراد ضابط المطار أن يأخذ جواز سفره كما هو المعتاد، ثار المأمون ثورة عارمة، وقال: تصنعون معى ذلك لأنى من الإخوان؟ فرد الضابط: أنت لست من الإخوان!! (3) قبل فجر 3 سبتمبر 1981، تم إلقاء القبض على 1536 يمثلون رموز العمل الإسلامى والسياسى والوطنى فى مصر.. وفى 6 أكتوبر 1981 وقعت حادثة اغتيال الراحل السادات، وبعدها بيومين أحداث أمن أسيوط على يد الجماعة الإسلامية التى سبق انفصالها بسنوات عن الجماعة الإسلامية الأم، بل ووقوفها موقفا مناوئا ومعاديا للإخوان.. مرت فترة تضييق على العمل الإسلامى استمرت حتى بداية عام 1983، حيث بدأ الإخوان -بقيادة التلمسانى- يعاودون ترتيب أفكارهم وأوضاعهم الداخلية.. كانت سياستهم آنذاك تتلخص فى الاقتراب الهادئ والمتدرج من الجماهير والتواصل معها، من خلال الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، العمل الخيرى، وإنشاء الجمعيات التربوية والطبية، فضلا عن ولوج العمل النقابى والسياسى.. وقد حقق الإخوان فى ذلك نجاحا كبيرا، بدءا من منتصف الثمانينات حتى قيام ثورة 25 يناير.. ولأن التلمسانى كان مبادرا، فقد قام بالتنسيق مع حزب الوفد لخوض الانتخابات البرلمانية عام 1984، كما طرح علينا فكرة -كانت مستغربة تماما- وهى فكرة تكوين حزب سياسى للإخوان. فى 22 مايو 1986، توفى الفارس النبيل الأستاذ عمر التلمسانى، وكانت جنازته مثالا وترجمة حية للدور الذى قام به خلال فترة توليه منصب المرشد العام للإخوان.. قيل إن من حضروا الجنازة كانوا مليونا أو يزيد، وقد تقدم المشيعين رموز من الدولة.. وبوفاة التلمسانى فقد الإخوان والوطن قيادة نادرة؛ ثقافة وعلما وفكرا وعقلا وحكمة ونبلا وخلقا وسلوكا.. رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به فى مستقر رحمته.