من شرفةٍ ذات إطلالةٍ نيليةٍ، انطلقت الروح حاملة مشاعر خوف وحب.. وألم وشوق، حيث أربع نخلات يتمايلن حسرة على جانب النيل، كأنى أراهن يذرفن حزنا يتساقط على صفحته، يغتسل بجلاله وكبريائه فى مواجهة التحديات.. وغضبته المتفجرة من شرايين الحلم حين ينتفض الغيظ والإرادة من قاعه المسكون بالأسرار، المتجلية أيقونة على صدر التاريخ مؤطرة بعظمة مصر.. وما إن غادرت المكان معصّبة بذلك المشهد البانورامى حتى مررت من ميدان التحرير لتسقط العصابة عند أول صورة بائسة لمقالب مهملات، يليها بضائع مفروشة بعبث على أرض مروية بدماء الأحرار، وخيام رثّة تمتد بينها حبال غسيل لملابس نسائية تخدش الحياء وتنهال على هيبة الميدان الذى احتضن أعظم ثورة عرفها التاريخ بعصا البشاعة.. فهل هذا هو ميدان التحرير؟ ميدان التحدى والوعى والتغيير المنتظر؟ نعم التغيير المنتظر الذى يجب أن تكون أولى خطواته هى النظر لأهمية الميدان كأحد المعالم البطولية التى انطلقت منها صيحات الشعب.. فمتى يدق ناقوس التغيير العملىّ؟ الوقت يمضى سريعا وما زالت الأنفاس محبوسة بين ضلوع الترقب تنتظر بادرة مبشّرة بانعتاق الفجر من سحب الظلام.. الوقت يمضى وما زال الخوف من الغد هو الشاغل الرئيسى للمواطن والمقيم والسائح والمستثمر.. وما زالت العجلة واقفة تنتظر الانطلاق نحو الأهداف.. وما زال الحديث وبعد ستين عاما يدور ويملأ الصفحات حول ما حققته ثورة يوليو من أهداف! باحثا عن فكر وقلم منصف متجرد عن الحماس والعاطفة وركوب الأمواج، يسلّط الضوء على أهداف تلك الثورة الخفية والمعلنة ويضع النقاط على الحروف! ستون عاما وما زال البحث جاريا عن الحقيقة.. فكم عاما سيستغرق الحكم على أهداف ثورة يناير وما سيتحقق منها يا ترى، ومدى تأثير ما ستفرزه أيديولوجيتها على الأجيال القادمة؟ وهل المائة يوم تكفى لوضع قاعدة لثقافة وخصائص أهداف الثورة والبدء بتحقيق أدناها؟ الكلّ يتحدث عن الأهداف وهذا عام آخر سينقضى وما زلنا بانتظار البدء بالخطوات الأولى التى تلت خطوة إسقاط النظام السابق.. لتفتح الأبواب على تغيير حقيقى دفعت الشعوب من أجله أغلى الأثمان من أجل ما تريد.. الشعوب تريد إصلاحات اقتصادية وتعليمية وصحية وحرية فكر وحقوق إنسانية وسياسية عامة حقيقية، وليست شعارات تتخفى وراءها أهواء أصحاب القرار وما يصبون إليه من حقوق خاصة.. الشعوب تريد عدالة اجتماعية تأخذ بيد الطبقات الدنيا.. تنهض بها ثقافيا واقتصاديا لتضييق الفجوة بينها وبين الطبقات الأخرى.. الشعوب تريد استقرارا وأمانا.. والوطن يريد عملا جماعيا لإرساء قواعد الديمقراطية قولا وفعلا.. فإذا ما تحقق هذا ولو على المدى المتوسط تكون الثورة قد حققت الكمّ الأهم من أهدافها، ليأتى بعده المهم.. ومن هنا تكون المقارنة بين الثورة الأولى وما حققته من أهداف والثانية وما هو ممكن أن تحققه من أهداف إذا ما قدر الله لها أن تتحقق سيكون ذلك ثورة حقيقية كبرى.. خاصة إذا ما تضافرت الجهود بتجرد وإخلاص، تعززها شهادة مؤرخين وكتاب ومهتمين ومحللين من ذوى الحياد والإنصاف لتحتل المكانة الأسمى من التاريخ.