إذا تدفقت ينابيع شهود جلال الله تعالى فى العبادات، وتحولت إلى معاملة خالصة مع الله، ترتوى فيها القلوب من معين الغيب الشريف، وإذا نبعت العبادة من جذر عميق من المعرفة بالله تعالى وتوقيره، فإن الإنسان يتحول بذلك إلى إنسان نبيل، له سلوكٌ اجتماعى رحيم، ويتسع صدره، ويصير صبورا على الناس، يطعم الطعام، ويصل الأرحام، ويرق ويترفق بالمسكين وذى الحاجة، والعبادة الصحيحة لا تنفك ولا تنفصل عن هذه الثمرة أبدا، وهذا المعيار الإنسانى معيار صحيح جدا فى بيان مدى تحقيق العبادات لمقاصدها وثمراتها، فكلما سرى فى العبادات والفرائض نَفَسُ الربانية، واستنارت بالمناجاة الإلهية، ازداد الإنسان إنسانية، وإقبالا على الناس، وإنصافا لهم من النفس، وإذا ما ابتلى كذلك بغلظة القلب، وقساوته، وتجهم مع الخلق، وتحامل عليهم، وظلمهم، فإن صدره يظلم، وينطفئ نوره، ولا يحصل له أُنْسٌ بالعبادة ولو أراد واجتهد، فبين العبادة الصحيحة وبين السلوك الإنسانى الرحيم ارتباط لا يتخلف ولا يزول، وتأملوا قول الله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ اليَتِيم)، (سورة الماعون، الآية 1، 2)، فهذا سلوكٌ اجتماعى ظالم، فيه عدوان على اليتيم، وكسر لقلبه وخاطره، ثم قال الله تعالى: (وَلَا يَحُضُّ على طَعَامِ المِسْكِينِ)، (سورة الماعون، الآية 3)، فهذا سلوك اجتماعى ظالم للإنسان، يتجاهل ألمه واحتياجه وفقره، ويتجاهل معاناة الإنسان، فماذا كانت النتيجة، لقد أنتج ذلك السلوك الإنسانى العدوانى أَنْ فَقَدَ صاحبه لذة الأنس بالله تعالى فى عبادته، وأظلم قلبه، وكانت النتيجة الحرمان، وانطماس البصيرة، والابتعاد عن جلال الغيب، واقتلاع جذور توقير الله تعالى من القلب، فكانت النتيجة: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُون)، فإذا بالسلوك الإنسانى الظالم الغشيم المتحامل، قد أزهق روح العبادات، وتأملوا أيضا قول الله تعالى بعدها مباشرة: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ)، (سورة الكوثر، الآية 1، 2)، فأمر بالصلاة، وربطها بالنحر والذبح، وإطعام الطعام، وتفقد احتياج الناس، ليشير إلى أن العبادة والسلوك الاجتماعى لا يفترقان أبدا، وإذا اختل واحد منهما اختل الآخر معه، وتأملوا ما رواه الترمذى والحاكم وصححه وابن ماجة عن عبدالله بن سلام رضى الله عنه قال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة انجفل الناس إليه، فجئته لأنظر فى وجهه، فلما رأيت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شىء سمعت منه أن قال: (يا أيها الناس أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)، فاشتمل هذا الأمر النبوى على أربع خصال: إطعام الطعام، وهو سلوك اجتماعى رحيم، وإفشاء السلام، وهو سلوك اجتماعى فى غاية الرقى، وصلة الأرحام وهو سلوك اجتماعى رحيم، ثم الصلاة، فجعل الصلاة فى وسط دائرة متشابكة ووسط محيط، من السلوك الاجتماعى المفعم باللياقة الاجتماعية، والمعاملة الإنسانية الرفيعة؛ لأن هذا السلوك من أعظم أسباب رقة القلب وصفائه، وبه يكون القلب أكثر قابلية لشهود جلال الله، ودوام الالتجاء إليه، وتوهج المعارف الربانية فى القلب، مما يثمر عبادة صحيحة، (وللحديث بقية).