الجميع يركض للحاق بآخر عربات المترو بمحطة «الشهداء» تحت الأرض، حالة من الشحن انتابت المارة فوقها، فالباقى من الزمن نصف ساعة، يلعن أحدهم رئيسه فى العمل الذى رفض مغادرته مبكرا، وتدعو أخرى ألا يوقفها سيل «الأكمنة» فى طريقها لمنزلها البعيد بمدينة السلام، بينما هم يسيرون بتؤدة بقلب مستريح، فالجميع يأوى إلى بيته فيما يستقرون هم فى نهر الشارع، الساعة البيولوجية ليس لها مكان داخل عقولهم، الأهل لا يبحثون عنهم إلا عندما يكونون جثة هامدة، ليس لهم واقع افتراضى يهربون إليه، فقط واقع وحيد مرير يعيشونه بكل آلامه.. أصوات الجرارات الحديدية والمدرعات بجنازيرها تهز أرضية المحروسة، أغلقت الميادين والشوارع الرئيسية، الكل فى بيته، ملتزم بالقرار العسكرى، فيما ظلوا هم سكانا لبيوت ليس لها جدران يتسكعون ملتحفين بالسماء، محطمين قرارات الدولة، ليس بخاطرهم ولكن جبرا. مع دقات ال9 مساءً كان ميدان التحرير أشبه بساحات ما بعد الحروب، الظلام سيد الموقف والصمت بدا مسيطرا بامتياز، الكعكة الحجرية تهتز بفعل سير الدبابات التى راحت تحتل مستقرها على الأطراف، الأسلاك الشائكة تتراص وميدان الثورة أضحى مغلقا على ساكنيه من المعتصمين ومن جاورهم من أطفال الشوارع الذين يتخذون من المجمع وحواشيه ملاذا آمنا، غير أن «الشقاوة» أبت حصرهم داخل حيز ضيق فاتخذوا من ممر صغير مهربا إلى الشوارع الخلفية؛ حتى لا يشعروا بكبت حريتهم وانطلاقها فى العنان، الميزة الوحيدة فى الركون إلى نهر الشارع. «هدى.. بنت بمية راجل» هكذا تصفها الصُحبة، تسير بشموخ لا يناسب سنها الصغيرة التى جاوزت ال11 عاما بشهور، لا يهمها منذ إعلان قرار حظر التجول إلا كيفية الدخول والخروج للتحرير، كانت ترغب فى استكمال الدراسة غير أن انهيار منزلها وزواج شقيقتها الكبرى كانا كفيلين بلجوئها إلى الشارع: «باحس إن الميدان بيتى واللى فيه أهلى وبيخافوا عليّا»، كل ما يعلق بذهن الصغيرة من عالم السياسة هو الحشود التى تراوح الميدان كل فترة «ده المكان اللى عندنا بنّام وناكل ونشرب فيه.. مينفعشى حد يشاركنا؛ هما أساسا عندهم بيوت». يلتقط «هشام عسلية» منها أطراف الحديث بقوله: «إحنا اللى نجحنا الثورة»، مشيراً إلى أن من يسمونهم أطفال الشوارع هم وقود المظاهرات دوما «إحنا بنبقى فى الصفوف الأولى ومحدش بيأجرنا زى ما بيقولوا»، 15 عاما هى عمره على الأرض غير أن السنين وهمومها صنعت منه رجلا: «أنا أساسا صنايعى طبالى بشتغل فى فرن بس الدنيا دوارة»، دخل «عسلية» أكثر من دار للأيتام لكنه لم يأنس لنظامها.. يوميا تمر حملة من رجال المباحث على الميدان فى أوقات الحظر، يترقبها الحضور، فيما يهرع الأطفال متخفين فى الجنبات حتى لا تطالهم يد الحكومة، كما يصفونها «الظباط بيضربونا وفى الآخر يصالحوك بسيجارة عشان متفتنش عليهم فى النيابة.. هما عارفين إننا هنروح المؤسسة فى الآخر»، «هشام» يفتخر بمشاركاته العديدة فى كافة المظاهرات منذ فجر الثورة رغم قوله «ماليش رأى فى السياسة»، لكن أكثر ما يزعجه كلمة «متسول» التى تتردد على مسامعه كل حين، يشعل سيجارة ويصمت لوهلة قبل أن يستطرد: «إحنا بننزل نتفرج عشان نتابع اللى بيحصل وأصحابنا بيروحوا فى الرجلين»، يعتبر «عسلية» أن لحظر التجول فائدة تقى المصريين شرور الموت، لكنه يعتبر الحظر غير مطبق عليه أو رفاق الشارع. منزوياً تحت ظلال إحدى الأشجار وفى يديه زجاجة ل«مزيل العرق»، يجلس الطفل الصغير، مرتكنا على جذع شجرة، إلى جوار أحد المطاعم، رائحة الأكل تزكم أنفه، «اسمى محمد أبوالحسن محمد»، يُحب أن يعرف نفسه باسمه كاملا، رغم أن ما يعيش به هو «محمد» فقط، هرب من اسمه الثانى «أبوالحسن»، وكأن نطفة أبيه لم تخالج قلبه، لفظها فور أول صرخة خرجت من فمه وهو رضيع.. 15 سنة و«محمد» أصغر إخوته يقضى أيامه فى الشارع، لا يتذكر عدد السنوات أو الشهور أو حتى الأيام، مكتفيا بجملة واحدة «بقالى كتير فى الشارع».. لم يترك البيت بدون أسباب، ولكنه وقت أن تستعطفه مشاعره للعودة إليه، ما يلبث أن يتذكر، ذلك «الجنزير» الحديدى الذى استخدمه والده لتقييده فى إحدى غرف شقته لمدة 3 أيام، أما عن الأكل والشرب «كان يدخل عليا الأوضة مرة واحدة فى اليوم.. يحط الطبق قدامى»، لذا كان لزاما على الطفل الصغير الذى ارتسمت على ملامحه معانى الشقاء والبؤس أن يحنى ظهره كالحيوان من أجل أن يُطعم نفسه، كان وجوبا عليه المغادرة والرحيل فى صمت.. داخل منطقة رمسيس كان مأواه الأول «كنت نايم فى جنينة هناك.. ولقيت عيل من أطفال الشوارع بيقلبنى اتخانقت معاه.. لكنه قال لى خليك معانا ناكل ونشرب مع بعض»، ومن وقتها ولم يُصب الضيم نفس «محمد»، الحظر بالنسبة للطفل الذى أوشك على مرحلة البلوغ، يحميه من الأعداء -على حد قوله- يتابع واللمعة فى عينيه العسليتين: «إحنا مفيش حظر علينا.. لأن احنا كده كده فى الشارع.. ملناش مكان غيره.. الحظر بيطبّق على البنى آدمين بس»، لا يستفيد «محمد» من الشارع شيئا، لكنه يزيد عليه آلامه، بعد أن فقد رفيق الأسفلت «بدر»: «كان بيعوم معانا فى النيل.. لكن البحر شفطه.. فغرق»، يتذكر الطفل ذاك اليوم الذى جاء أهل «بدر» من محافظة المنوفية من أجل حمل جثة رفيقه وكأن الأهل يبحثون عن فلذات أكبادهم فقط عندما تصعد أرواحهم إلى السماء.. بذات الملابس المهترئة دافع «محمد» عن أحد ضباط الجيش، خلال اشتباكات رمسيس «خد رصاصة وغرق فى دمه.. مكنش فيه حد بيساعده»، أسدل الطفل الصغير تى شيرته المهترئ على عينيه: «الخرطوش مش مهم يصيب جسمى المهم إنه ميجيش فى عينى»، سحب هو والأطفال رفاق الشارع الضابط حتى أرقدوه فى مكان آمن، وبعد أن أنهوا مهمتهم، لم يظهروا مرة ثانية.. تسأل «محمد» «نفسك فى إيه؟»، لتأتى إجابته فى أسى ممزوج بهمّ عميق: «نفسى أطلع متعلم»، قبل أن يحاول البحث عن مكان يؤويه من ظُلمات الليل، فيما تستعد مدرعات الجيش لإغلاق الشوارع الرئيسية. الثورة جعلت لهم دورا فباتت حياتهم مليئة بالأحداث والذكريات، مرة عن الصديق الذى أصابه الخرطوش وتارة عن البنت التى وقعت فى قبضة الشرطة وثالثة عن الصغير الذى أنقذ ضابطا، علاوة على انتعاشهم ماليا بفعل المظاهرات فى التحرير، لذلك كان الغضب من غلق الميدان وحظر التجول باديا على وجه عبدالرحمن طارق: «كانت الفلوس بتملى جيوبنا.. دلوقتى مش لاقيين اللقمة»، صاحب الجسد السمين يتحدث فى السياسة كخبير، يضحك من حديث رفاقه، لكنه لا يعيرهم انتباها: «أنا متلقح هنا من يوم 25 يناير»، قبل 3 سنوات ترك «عبدالرحمن» منزله بأرض اللواء لكنه لا يعتبر نفسه من أطفال الشوارع: «باروح البيت كل كام شهر وأرجع للشارع تانى»، يهمس بصوت خافت خشية أن ترصده أعين الجنود: «من ساعة الحظر والبلد بتنام بدرى ومفيش حد بينفّعنا بقرشين»، يعتبر صاحب ال14 عاما أن جماعة الإخوان هى سبب طول مدة الحظر: «لما ينزلوا فى الشوارع بالرشاشات لازم الجيش يخلى الناس تروح م المغرب». أطفالٌ هم رغم الكهولة، بأجسادٍ تخطت الخمسين، وعقولٍ تجاوزت العاشرة بالكاد، يهيمون على وجوههم، لا قيمة لوقت لديهم، ومجريات الواقع لا تؤثر على ما يعيشونه، على بعد خطوات من كوبرى الملك الصالح يستقر عم «جمال» -كما يناديه رفاق الحى الشعبى- بوجه يشع طيبة تخالطه حبات التراب ولسان متثاقل نسبيا وملابس شتوية -رغم لهيب الجو- كستها جلباب صعيدى رث: «معنديش فلنات نص كم زيكم عشان كده بالبس الهدوم كُلاتها فوق بعض»، ينفى معرفته بوجود حظر تجول من عدمه، غير مدرك لطبيعة المرحلة، فمصر متوقفة لديه عند حدود الملك الصالح، ومركز «الفشن» ببنى سويف الذى قدم منه قبل 15 عاما، لم تنقلب لهجته كأهل البندر رغم العشرة الطويلة؛ فلا تزال مصطلحات أهل الصعيد تلازم حديثه، يقول «أنا راجل فى حالى.. وأديلى هنا ياما»، فقد كل معانى الهوية، حتى خلع حذاءه قبل أعوام خمسة: «كل ما ألبس جزمة جديدة تتسرق.. ممنهاش لازمة»، كل ما يشغل بال الرجل الذى يبدو أنه فى العقد الخامس هو تجميع مبلغ 500 جنيه «كل كام شهر» لإرساله لوالدته الضريرة بالصعيد عبر زوج شقيقته الذى يعمل ك«فاعل».. حين يناغشه أحد المسئولين عن جراج المكان بسؤاله عن السياسة يرد بوجه مستغرب: «أنا مالى ومال البلد»، ثم يسرد تفاصيل يومه الذى يبدأ حسب ساعته البيولوجية مع طلوع الشمس، ويغفو على دقات ساعة حظره وقتما شاء، بانتشاء يحكى عن أصحاب المطاعم الذين يعرفونه بالاسم: «اللى بيدينى شوية بطاطس واللى قرص طعمية.. وبتمشى»، يراوح «جمال» أسفل الكوبرى مجيئا وذهابا بقدم عرجاء كلما أحس بشخص يطل من نافذة سيارته قد يكرمه بفتات الجنيهات، هو ليس شحاذا لكنه يطلب العون على فترات، أحد علامات الملك الصالح لكنه لا يملك أى أوراق تؤكد انتماءه للدولة: «بطاقتى الكبيرة فى البلد نسيت أجيبها معايا والبطاقة الجديدة نفسى أعملها». فى عصر كل يوم يحين موعد الذهاب للمصيف الخاص بأطفال الشوارع، على شاطئ النيل بجاردن سيتى، كان «إسلام» بينهم، بجسده النحيل، تنساب عليه القطرات، يجلل صوته بالضحكات بعدما حصل على حمام دافئ تحت وطأة شمس حامية، لم يتعد عمره 9 سنوات، ترك بيته بمنطقة عين شمس مبكرا، يتذكر تلك الجملة التى ألقته فى جنح الشارع: «ما تمشى الواد ده من هنا»، قالتها زوجة والده، فلم يتوانَ رب الأسرة فى طرد فلذة كبده، ليجد فى أطفال الشوارع الذين لا تجمعه بهم أى صلة دم خير رفقة.. «نفسى أطلع القائد الأعلى للقوات المسلحة»، يقولها «حبيب الله» لاعتقاد فى داخله بأنه سيعطى أوامره للجنود بفك الحظر عليه من أجل أن يتمكن من شراء «ساندوتش فول» من أحد مطاعم وسط القاهرة التى خرقت الحظر: «المشكلة إن اللى بيخرج مبيدخلش تانى». يدخل رب الأسرة إلى البيت مترنحا، عيناه تبدو مقفلتين، فيما تفوح من فمه رائحة «الخمر»، يزيغ بعينيه فيرى ابنه «رمضان» جالسا، لتحين الحفلة عليه، سباب وشتائم علاوة على الكىّ بالنار ولا حرج من قليل من «الشلاليت»، تنكسر نفسية الطفل، ليلوذ هاربا من المرج صوب وسط القاهرة، يتألم فيضع يده على أعلى قدمه «أصلى خدت رصاصة حية فى رمسيس»، كجميع أطفال الشوارع فى منطقة رمسيس، كان يراقب المشهد، الاشتباكات بين مؤيدى الرئيس المعزول محمد مرسى، وقوات الجيش، فيما اخترقت رصاصة فخذه اليسرى، لتنفذ من الجهة الأخرى، بوجه مُنكس وفؤاد تملأه الحسرة، بالقرب من مدرعات الجيش يرقد الطفل محتميا بخير جنود الأرض، حظر التجول بالنسبة له «أمان ليا ولحياتى.. ولحد لما أقوم بالسلامة»، فمستشفى الهلال الذى حجزه 3 أيام لم يفعل ل«رمضان» شيئا لسبب واحد فقط «معهوش تحقيق شخصية»، يلعن ذاك اليوم الذى ترك فيه البيت، لكنه يعاود الترحم على والدته التى اختارها الله لتكون بجواره، فهى كانت الأحنّ عليه من أى شخص على الأرض. دبدبات الجنود، لم تُلهب حماسه، والصوت الغليظ الذى تصدره المدرعات على الأرض لا تُخيفه فهو يجلس فى رحاب «أم هاشم» وفى حماية الله، على سور إحدى الحدائق العامة ارتكن «محمد الأسوانى» بجسده شارد الذهن، يُحرك تقاطيع وجهه، وهو ينفث دخان سيجارة تكرم أحد المارة بإعطائها له، لم يعرف ل«الحظر» معنى، فهو كما يُطلق على نفسه «غلبان»، ثيابه الرثة لفتت أنظار المارين بجواره، الذين لاذ كل منهم بالقفز داخل سيارات الميكروباص للوصول إلى بيوتهم قبل ميعاد الحظر، بينما لا يُبالى الرجل أسمر البشرة الذى تجاوز عمره الستين من العودة إلى منزله، فليس له أى مأوى، فقط الشارع يحتمى بين جدرانه، ليس لديه ميعاد للنوم أو الاستيقاظ، عندما يصيبه الإرهاق من كثرة السير فى الطرقات، يلقى الجوال الذى على ظهره أرضا، يجلس عليه فيستريح، ووقتما تغفو عيناه، يخرج البطانية التى بداخل الجوال، ليلقى بجسده عليها، فى ملكوت الخالق، هذه هى عادته منذ أن وطئت قدماه أرض القاهرة.. «ماشتغلتش قبل كده أى حاجة.. طول عمرى فى الشارع»، أصله الوحيد الذى يتذكره هو أنه من إحدى قرى مركز «دراو» بمحافظة أسوان: «أنا من نجع الفقراء»، وكأنه قد حصل على نصيبه من اسم تلك القرية المشهورة بتربية الجمال، يتجول يوميا بين أضرحة الأولياء «الحسين، السيدة نفيسة وعند السيدة زينب»، يستنكر ما يحدث على المشهد السياسى بجملة واحدة مبتورة الحروف: «أنا حب السيس.. محبش مرس»، مستاءً مما حدث فى جامع الفتح من تخريب «أصلى كنت بانام هناك.. وفيه مائدة هناك طول السنة.. كنت باكل فيها علطول»، قبل أن يحرك شفتيه متفوها ببعض الكلمات أنعم بها الله عليه: «المهم الواحد عايش وخلاص.. الحمد لله.. حالى أحسن من حال ناس كتير»، يقبض بيديه على البطانية، يلتفت يمنة ويسرة، حول هؤلاء الأطفال -شركائه فى خرق ساعات الحظر- الذين يحومون حوله من أجل مضايقته، فيستعد هو بإخراج عصا خشبية غليظة، جاهزة لردع وإبعاد أى طفل يجرؤ على الاقتراب منه. لأنه «عربجى» لم يجد عم «كامل» سوى «الكرباج» من أجل ضرب ابن زوجته «أحمد»، علامات الضرب ما زالت موجودة على ظهره، واضحة وضوح أشعة شمس فى جو صاف، ترك منزله هربا من تعذيب رب الأسرة: «أصله هو اللى بيصرف ع البيت»، فيما تخالجه آمال والدته عندما تحتضنه على فترات بعيدة «معلش يا أحمد.. أنا باحاول آخد منه كل فلوس وهتطلق إن شاء الله وترجع لحضنى تانى»، تلمع عيناه، فتهبط الدموع وكأنها دم يستنزف قواه وجسده النحيل الذى خارَ نتيجة عدم الأكل والشرب بانتظام: «مش مهم إنى أكون فى الشارع.. اللى خايف منه بس حظر التجول»، أمران يخشاهما «أحمد» قبلهما «الله»، الشرطة والجيش: «بتوع المباحث بينزلوا يلموا العيال من الميادين»، لم يعترف يوما بأنه طفل شارع، ولكنه يقتنع فور أن تدخل المدرعات لتطوق ميدان التحرير -حيث يقطن- وقتها فقط يشعر بأنه لا مأوى له إلا الخلاء.. على بعد خطوات كان «إبراهيم»، 14 عاما، يستند بقدم ونصف القدم على حائط بأحد شوارع وسط البلد، ينفث دخان سيجارته محليّة الصنع مستريحا من حرارة الشمس التى لفحت جبهته «كنت بابيع أعلام فى التحرير بس من ساعة من الميدان اتقفل والشغل خف ع الآخر». داخل أحد شوارع وسط المدينة كان «كريم» متخذا ركنا قصيا بعد ساعات من فك الحظر، يستقر أعلى شجرة، وجهه الطفولى وشعره الذى غلبت عليه الصفرة وملابسه المهندمة جعلت المارة يظنون أنه من «أولاد الذوات»، فيما تبدلت نظراتهم حين وقعت أعينهم على ذلك التشوه الذى يتصدر صدره بالكامل إثر حريق شب فى جسده الصغير بفعل لعبه مع أحد أطفال الشوارع من أقرانه، حين صب عليه البنزين ظنا منه أنها دعابة، فحياة أبناء الشوارع تعج بالمفارقات. الطفل الذى لم يكمل عامه العاشر تمتد أصوله للشرقية «محدش بيسأل عليا وأنا مبسوط كده»، تزوغ عيناه الصغيرتان وهو يقول «الناس كلها بتدب فى بعض»، فى إشارة منه إلى دنيا السياسة المتمثلة لديه فى المظاهرات المتكررة، فيما يضحك ببراءة وهو يعلق على حظر التجول: «إحنا ملناش غير الشارع.. الفرق إننا بنقعد فى حمى الجيش والدنيا بتبقى هُس ع الآخر». وفقا لإحصائيات صندوق الأممالمتحدة لرعاية الطفولة «يونيسيف» 2011 -وهى آخر إحصائية صدرت عن المنظمة العالمية- يقدر عدد أطفال الشوارع فى المدن المصرية ما بين 600 ألف ومليون طفل، وينظر إلى هؤلاء الأطفال على نطاق واسع كمصدر إزعاج أو كمجرمين محتملين.. بدأ إقحام أطفال الشوارع فى العملية السياسية من قبل الثورة وبالتحديد خلال الانتخابات البرلمانية 2010، حسب محمود البدوى، المحامى ورئيس الجمعية المصرية لمساعدة الأحداث وحقوق الإنسان، الذى يشرح كيف كان الطفل يسهم فى الدعاية السياسية بتوزيع المنشورات أو فيما سُمّى بالدعاية الانتخابية المضادة بتمزيق لافتات مرشح منافس مثلا، وهو ما يقع تحت طائلة الاتجار بالبشر -استغلال الطفل فى العملية السياسية بسبب الضعف أو الحاجة- حسب القانون رقم 64 لعام 2010 والذى تنص مادته رقم 6 على عقاب «كل من ارتكب جريمة الاتجار بالبشر بالسجن المؤبد والغرامة التى لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز خمسمائة ألف جنيه إذا كان المجنى عليه طفلاً أو من عديمى الأهلية أو من ذوى الإعاقة». وفى إحدى الدراسات التى صدرت عن مركز معلومات دعم واتخاذ القرار بمجلس الوزراء، ظهر أن 68% من المواطنين يرون أن أطفال الشوارع كان لهم دور فى الأحداث التى تمر بها مصر بعد الثورة، وأوضحت الدراسة أن 38% من المصريين يرون أن الأسرة هى المسئولة عن تلك الظاهرة، فى حين وجد 28% من المواطنين أن الحكومة هى المسئولة، بينما يرى نحو 20% من المواطنين أن المجتمع ككل مسئول وأنها ليست مسئولية جهة واحدة. يعتبر المحامى الحقوقى محمود البدوى أن الدولة لا تهتم بالأطفال الذين لا يجدون مأوى إلا فى الكوارث كمتهمين «كحريق المجمع العلمى» أو حين يسقطون قتلى مثل «عمر بائع البطاطا»، فيما يؤكد أن الأطفال أنفسهم يستطيعون التكيف مع أى أجواء -ومنها الحظر- بسبب اعتيادهم على مواجهات الصعوبات غير التقليدية فى الشارع.