إلى متى سنظل فى هذه الدوامة الدستورية والقانونية التى لا يبدو أنها ستنتهى على خير، وإلى متى سيظل الوطن فى صراع قانونى ودستورى وارتباك سياسى بسبب فتاوى قانونية تصدر بالهوى السياسى وبأغراض لا تهدف إلا للسيطرة والهيمنة على الواقع السياسى وعلى مفاصل الدولة بل وعلى دستور البلاد الذى سيحكمها لعدة أجيال؟ وقد كنا نعيب على النظام السابق استخدامه ترزية القوانين من أجل ترسيخ دعائم نظام الحكم واستخدام نصوص القانون بل والدستور أحياناً بإدخال تعديلات فيه لا تتوخى مصلحة الشعب بقدر ما كانت تهدف لأغراض سياسية كتدعيم سلطات رئيس الجمهورية أو التمهيد للتوريث أو حتى لتقنين الفساد، بيد أن هؤلاء الترزية -ترزية قوانين النظام السابق- كانوا حريصين على استيفاء الشكل والاحترام الظاهرى لنصوص دستورية وتشريعية حتى ولو كان الغرض خبيثاً، وبانتهاء صلاحية هؤلاء الترزية بعد الثورة ظهر نوع جديد من ترزية القوانين، ولكن للأسف هم من الهواة الذين لا ترقى إمكانياتهم القانونية إلى إمكانيات الترزية الأوائل الذين أنتجوا عدة قوانين سيئة السمعة؛ بداية من قانون العيب، ثم إطلاق مدة انتخاب رئيس الجمهورية ليحكم مدى الحياة، وتوسيع سلطاته فى الدستور والقوانين، مروراً بالتعديلات الدستورية الفضيحة فى مايو 2007 وخاصة المادة 76 من دستور سنة 1971 وإلغاء الإشراف القضائى على الانتخابات البرلمانية، مما أدى إلى مجموعة من الكوارث كان آخرها ذلك البرلمان الفاضح الذى تم تشكيله بمعرفة عصابة من الحزب الوطنى المنحل والذى كان أهم أسباب قيام ثورة 25 يناير. والآن ما أشبه الليلة بالبارحة، فبعد الثورة تولى الأمر ترزية القوانين الجدد والهواة من غير المتمكنين من صنعة صياغة القوانين ومن غير المدركين لأهمية التشريع وخطوات صناعته وخطورته على الحياة السياسية والاقتصادية بل وغير المدركين لأفعالهم، فرأينا إصدار قانون عُرف إعلامياً بقانون العزل الذى تم تفصيله على أشخاص محددين بالاسم، وأعيتنا كثرة التحذير من عدم دستورية هذا القانون ومخالفته لأبسط قواعد التشريع ولبديهيات صحة القانون وهو أن يكون عاماً ومجرداً، ولم يستمع أحد لما نقوله وننصح به حتى قضت المحكمة الدستورية العليا -بحق- بعدم دستورية هذا القانون ولكن بعد أن أُغرقت البلاد بسبب هذا القانون فى جدل دستورى وقانونى كنا فى غنى عنه. وليس بعيداً عن الأذهان ما كنا نقوله فى مقالات مكتوبة وعلى شاشات التلفاز فى جميع القنوات الحكومية والخاصة من عدم دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب، وذلك بمجرد صدوره وقبل إجراء الانتخابات، ولم يستمع إلينا أحد، فماذا كانت النتيجة؟ أُجريت الانتخابات بقانون معيب وغير دستورى كبّد الدولة وكبّد المرشحين أموالاً طائلة، وأجهد الشعب مرشحين وناخبين، وانتهى الأمر بحكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية بعض نصوص قانون انتخابات مجلس الشعب والشورى، فتم حل مجلس الشعب وسيلحق به -بلا جدال- مجلس الشورى مع ما استتبع ذلك من ارتباك أدى إلى صدور الإعلان الدستورى المكمل لعلاج مشكلتى التشريع وحلف الرئيس المنتخب اليمين مع تحفظى على باقى بنوده. وبعد ذلك صُدمنا بقرار رئيس الجمهورية بعودة مجلس الشعب المنحل -بالمخالفة لحكم المحكمة الدستورية العليا- وما نجم عن هذا القرار من نتائج صادمة أبرزها انقسام الشعب المصرى واتهام الرئيس الجديد بخرق الدستور وإهدار الأحكام القضائية وغير ذلك من آثار ذكرناها فى مقال سابق لنا، واستتبع هذا القرار عقد مجلس الشعب لجلسة وُصفت بأنها إجرائية، وأحال المجلس بعدها -فى خطيئة دستورية- حكم المحكمة الدستورية إلى محكمة النقض على الرغم من أنها غير مختصة، حيث إن هذا القرار الدستورى كان بمثابة عقبة مادية فى سبيل تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا فقضت المحكمة بوقف القرار وتبعتها محكمة النقض بالحكم بعدم اختصاصها بنظر ما أحاله إليها مجلس الشعب، مما كان له الأثر الكبير فى إحراج الرئيس واهتزاز صورته أمام الشعب. كل هذا الارتباك أوقعنا فيه ترزية القوانين الجدد والهواة ثم كانت آخر الفتاوى الكارثية بإصدار وتصديق رئيس الجمهورية على ما سُمى القانون رقم 79 لسنة 2012 بمعايير انتخاب الجمعية التأسيسية لإعداد مشروع دستور جديد للبلاد. وهذا القانون كان قد قرره مجلس الشعب المنحل قبل حله بيوم واحد ولم يصادق عليه أو يصدره من بيده سلطة التصديق والإصدار فى ذلك الوقت، وهو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وبدون هذه الخطوة الدستورية لا يصبح القانون نافذاً بل لا يصبح قانوناً من أصله، فمسألة التصديق هذه قد يمر فيها القانون ويتم التصديق عليه دون تحفظ وبالتالى يتم نشره فى الجريدة الرسمية فتكتب بذلك شهادة ميلاد القانون وقد تتعثر هذه الخطوة فيعاد القانون ثانية للسلطة التشريعية خلال فترة معينة لإعادة النظر فيه وقد يتم الاعتراض عليه كلياً فلا يصدر القانون إلا بعد اتباع إجراءات معينة كأن يصدر -وفقاً لدستور 1971- بأغلبية الثلثين فيصدر القانون بقوة الدستور، أما وقد خلا الإعلان الدستورى من مثل هذا الإجراء فإننا لا نكون أمام قانون وإنما أمام مشروع قد يولد أو يموت، وبحل مجلس الشعب قبل التصديق وإصدار القانون، يكون ما قرره المجلس المنحل من مشروع لم تكتب له الحياة مجرد حبر على ورق لا كيان له ولا قوام ولا حتى شبهة قانون. والعجيب أن يُصدر رئيس الجمهورية ما أُطلق عليه «قانون» بالرغم من عدم وجوده أصلاً، ونقع بذلك فى خطأ جسيم آخر لا يعلم أحد نتائجه لأن رئيس الجمهورية أصدر عدماً وصادق على إحياء مشروع قانون غير موجود، وهذا كله نتيجة لاستشارة ترزية القوانين الجدد من الهواة وعديمى الخبرة والذين لا يقدرون خطورة ما أقدموا عليه على الواقع السياسى والقانونى، ولكن المسئولية النهائية لا تقع إلا على الرئيس محمد مرسى. وأخيراً فإن إصدار هذا القانون -بفرض أنه قانون- ليس من شأنه تحصين الجمعية التأسيسية من خطأ تشكيلها الذى تم بإجراءات مخالفة لأحكام قضائية سابقة حيث يتقرر البطلان بوقت نشأة القرار ولا يصححه إجراء لاحق، وكيف غاب عن هؤلاء الجهابذة أن القانون لا يمكن تطبيقه بأثر رجعى على وقائع تمت فى الماضى، وهذا سوف يستتبعه إبطال الجمعية التأسيسية لوضع الدستور بالرغم من هذا الذى أصدره الرئيس الذى يتحمل وحده نتيجة اختياره لمستشاريه وعلى الله الثواب.