دانت الرقاب ل«معاوية»، وبايعه الجميع، وأخذ يوجه جهده -بعد ذلك- نحو القيام بالخطوة الأخطر فى تاريخ الحكم الإسلامى، وهى خطوة «توريث الحكم» لابنه معاوية. وكما أخذ معاوية البيعة لنفسه بالحيلة تارة، والمراضاة تارة، والمداراة تارة، والقهر بالسيف فى الكثير من المرات، فقد سلك المسلك نفسه ونهج ذات النهج كى يحصل على البيعة لابنه «يزيد» قبل أن يلقى وجه ربه. وقد تتبع ابن الأثير فى كتابه «الكامل فى التاريخ» أبرز معالم الرحلة التى خاضها معاوية بن أبى سفيان حتى يأخذ البيعة لولده قبل أن يموت، وأشار إلى أن «معاوية كتب إلى عماله بتقريظ -أى بمدح- يزيد ووصفه، وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار، فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو ابن حزم من المدينة، والأحنف بن قيس فى وفد من أهل البصرة، فقال محمد بن عمرو لمعاوية: إنّ كل راعٍ مسئول عن رعيته، فانظر من تُولّى أمر أمة محمد. فوصله -أى أعطاه- معاوية وصرفه، وأمر الأحنف أن يدخل على يزيد، فدخل عليه، فلما خرج من عنده قال له: كيف رأيت ابن أخيك؟ قال: رأيت شباباً ونشاطاً وجلداً ومزاحاً»! إذن من داخل قصر الحكم بالشام بدأ معاوية يرتب الأمر لولده يزيد، بتحريض عماله على مدحه والحديث عن قدراته وكفاءته، وأوصاهم أن يوفدوا إليه الوفود من البلاد التى استعملهم عليها ليسجلوا ذلك أمام أنصاره ورجال بلاطه فى الشام، والمؤكد أن كثيراً مما جاء على لسان تلك الوفود لم يكن يعبّر عن اقتناع بشخص «يزيد» قدر ما كان يعكس خوفاً من معاوية أو طمعاً فيه. يستطرد «ابن الأثير» ويحكى لنا طرفاً آخر من الجهود التى بذلها معاوية لانتزاع البيعة لولده ويقول: «ثم إن معاوية قال للضحاك بن قيس الفهرى، لما اجتمع الوفود عنده: إنى متكلم فإذا سكتُّ فكن أنت الذى تدعو إلى بيعة يزيد وتحثنى عليها. فلما جلس معاوية للناس تكلّم فعظّم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقها، وما أمر الله به من طاعة ولاة الأمر، ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة». ثم أعطيت الكلمة بعد ذلك للضحاك -تبعاً لترتيب معاوية- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا أمير المؤمنين إنه لا بد للناس من والٍ بعدك، وقد بلونا الجماعة والألفة فوجدناهما أحقن للدماء، وأصلح للدهماء، وآمن للسبل، وخيراً فى العاقبة، والأيام عوج رواجع، والله كل يوم فى شأن، ويزيد ابن أمير المؤمنين فى حسن هديه وقصد سيرته على ما علمت، وهو من أفضلنا علماً وحلماً، وأبعدنا رأياً، فولِّه عهدك، واجعله لنا علماً بعدك، ومفزعاً نلجأ إليه ونسكن فى ظله. ثم قام يزيد بن المقنع العذرى فقال: هذا أمير المؤمنين، وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا، وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء». لقد كان معاوية واسع الحيلة عظيم الدهاء وهو يمهد لتوريث الحكم لابنه، فلم يُرد أن تأتى هذه الدعوة على لسانه، بل قام بعملية تنسيق وترتيب مع عدد من رجال قصره، ليطرحوا ذلك أمام الوفود التى تأتيه، بحيث لا يستطيع أحدهم أن يرفض ذلك، وهو واقع تحت ضغط الوجود فى قصر الحكم، وفى حضور الخليفة، ووسط مجموعة ممن يؤثرون السلامة، ويميلون إلى قراءة ما فى أعين الخليفة من رغبات، ثم يتولون التصديق عليها بالكلام. جاءت الدعوة لتوريث «يزيد» -إذن- على لسان «الضحاك بن قيس»، وكان من السهل على الأخير أن يحتج بقاعدة تخويف الناس من الاختلاف وما يؤدى إليه من صراعات تراق فيها الدماء، فى خطاب لا يبتعد كثيراً عن خطاب الحسن بن على الذى يذهب إلى أن «الحياة مع الذل خير من القتل مع الكرامة». وقد دشنت هذه الجلسة لفكرة الاحتكام إلى القوة، وليس إلى العدل فى حكم المسلمين، ونفت مفهوم المعارضة كآلية من آليات الحكم الرشيد، حين تم إشهار السيف كوسيلة للتعامل مع من يرفضون فكرة التوريث، فى سياق حديث «المقنّع» وقولته الشهيرة: «ومن أبى فهذا» وهو يشير إلى السيف، وكان ما قاله الرجل موضع إطراء ورضاء معاوية بن أبى سفيان. بعد أن انتهى يزيد بن المقنع -سيد الخطباء كما وصفه معاوية - تكلم من حضر من الوفود. فقال معاوية للأحنف: «ما تقول يا أبا بحر؟ فقال: نخافكم إن صدقنا، ونخاف الله إن كذبنا، وأنت يا أمير المؤمنين أعلم ب«يزيد» فى ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله تعالى وللأمة رضى فلا تشاور فيه، وإن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا. فتفرّق الناس يحكون قول الأحنف». ويشهد قول الأحنف على أن الأمة لم تعدم فى عصر «معاوية» من يتقى الله فى رأيه، ويعبّر عنه بما تقتضيه سياقات حكم مستبد من لباقة. فقد رفض الأحنف فكرة التوريث بدرجة عالية من اللباقة التى عكست خوفه من معاوية، الأمر الذى دفعه فى نهاية كلامه إلى إعلان خضوعه فى كل الأحوال «وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا»!