حالة إعياء شديدة، يومان قضوهما فى المستشفى، يعانون تسمماً كاد يودى بحياتهم، لا يتذكرون أنهم تناولوا سوى «ساندويتشات لحوم وفراخ بالجبنة» من أحد المطاعم الشهيرة التى اعتادوا قصدها، لكونهم طلاباً مغتربين بالقاهرة عن أهلهم، فذهبوا ليجروا فحوصات طبية تحولت إلى «غسيل معدة»، والسبب فساد مكونات الطعام التى يعدها مطعم يقصده الآلاف يومياً. الأمر الذى دفعهم لقرار مقاطعة مطاعم الوجبات السريعة بأكملها، ومحاولة البحث عن عمل داخل هذه المطاعم لكشف فسادها، والتى أصبحت تستهين بالزبائن طمعاً فى مكاسب وأرباح بجودة أقل. «عبدالرحمن»: بيستخدموا جبنة رومى معفنة ولانشون منتهى الصلاحية.. والفئران والقطط ضيوف دائمين فى المطبخ.. و«أحمد»: اللحوم لونها بهتان والكبدة سوداء «أحمد، محمود، عبدالرحمن، منير، ومدحت» خمسة أصدقاء دخلوا مجال العمل بمطاعم شهيرة، اختاروها فى مناطق متفرقة بعد حالة الإعياء الأخيرة التى أصابتهم بسبب «أكلة من بره» بأحد المطاعم بمنطقة سكنهم فى المنصورية بالهرم، أسبوعان «شافوا فيهم كوارث» داخل المطابخ بحسب عبدالرحمن الأبنودى، الطالب بكلية التجارة جامعة القاهرة، الذى اعتاد أن يقرأ فى الصحف أخباراً عن أشخاص أودى فساد الأطعمة بحياتهم، لكن لم يتوقع الشاب العشرينى أن يكون ذات يوم جزءاً من تلك الفوضى: «أنا اشتغلت فى نفس مطعم الساندويتشات اللى تسممنا فيه بالهرم، شفت فيه مصايب رغم إنه معروف جداً، واكتشفت إننا بناكل أكل بواقى وأغلب الجبنة اللى بتتحط بتبقى منتهية الصلاحية وفى منها معفن والناس بتاكل عادى ومش فاهمين ولا حاسين باللى بيتعمل فيهم زى ما حصل لينا». دهشة وحيرة شعر بهما «عبدالرحمن» وأصدقاؤه بعد أن قام كل واحد منهم بسرد ما شاهده من الفساد الذى يطيح بأغلب مطابخ مطاعم الأكلات السريعة التى عملوا بداخلها، ويقول: «أنا شفت الأكل بعينى بيبقى مرمى على الأرض، والشاورما اللى الناس بتحبها بيجبسوها على السيخ بأدوات مش نضيفة خالص، وفيران وقطط كانوا بيبقوا ماشيين جنبى فى المطبخ ومفيش واحد شغال جوه المطبخ يقدر يتكلم ولا يصور»، وتابع: «عشان أثبت الفساد اللى شفته أنا قدرت أصور الجبنة الرومى المعفنة اللى بيستخدموها، وكمان لانشون ولحوم منتهية الصلاحية، لعل وعسى الناس تتعظ وماتاكلش بره زينا ويخافوا على نفسهم». «محمود»: المحل اللى اشتغلت فيه كبير.. وطريقة إعداد الأكل جوه المطبخ تجيب الأمراض.. وكل مكونات البيتزا مصابة بالعفن ومضروبة.. و«مدحت»: لو فيه مراقبين بيراعوا ذمتهم ماكانش الحال بقى كده ظروف عمله بجانب الدراسة خارج المنزل لفترة تزيد على ثلثى اليوم على مدار الأسبوع تضطره لتناول وجبات ساخنة داخل المطاعم الكبيرة بصحبة أصدقائه المغتربين، أحمد شكرى، طالب بكلية الحقوق جامعة القاهرة، عزف عن عادته القديمة التى تسببت فى تسممه بعد أن تعرف على الخطر الأكبر باكتشافه غياب دور جهاز حماية المستهلك فى مراقبة المحلات الكبيرة بحكم عمله طباخاً بمطعم فى منطقة دار السلام: «أنا اخترت المطعم ده تحديداً أشتغل فيه بعد تسممى أنا وأصحابى لأنى باكل منه كتير، هو أقرب لشغلى فى محل الملابس اللى بشتغل فيه جنب دراستى عشان أصرف على نفسى، وكان عندى رغبة أشوف مطبخه.. ويا ريتنى ما شفته ولا اشتغلت فيه». لا يملك الشاب العشرينى سوى الدهشة والإحباط معاً من كم الحملات التى تداهم محال ومطاعم وتؤدى لإغلاقها بسبب تلوث أو أطعمة فاسدة وغير صالحة للاستهلاك الآدمى، ويندهش أكثر حين يعاود المطعم نشاطه بحملة إعلانية مكثفة، لا تخلو الإعلانات من شرط إشراف وزارة الصحة و«التضامن» أحياناً، حسب محتوى الإعلان، بمرور الوقت ينسى «أحمد» ومن هم على شاكلته الأزمة، وقد يعاود التعامل مع المطعم كما فعل مع نفس المطعم القريب من عمله الأساسى، بائع بمحل ملابس، دون آلية يتأكد بها من سلامة الطعام أو من تشديد الرقابة عليه: «المحل اللى اشتغلت فيه اتقفل مرتين وكل مرة يقولوا عشان تراخيصه، وتقريباً كان بيتقفل عشان اللحمة وأكله مشكوك فيه، ولما دخلت اشتغلت فيه عرفت انتشار الأمراض اللى بتيجى لينا منين»، مستكملاً حديثه ويقول: «اللحوم لونها بهتان وشكلها غريب، والكبدة شفتها بعينى سودا، ده غير الفينو اللى بيحطوه مكشوف من غير كيس ولا أى حاجة تغطيه من كمية الدبان والحشرات اللى بتمشى فوقيه، وطبعاً النكهات والتوابل بتخلى الأكل طعمه حلو والناس بتاكل عادى». «كل يوم مطعم مغلق ومحل طعام فاسد» الأمر الذى اكتشفه «محمود الوكيل»، طالب بكلية الحقوق جامعة القاهرة، من خلال إعلانات الدعاية عن الجودة الصحية والمتابعة داخل المحل، يتابعها عبر شاشة التليفزيون، لكن بعد فوات الأوان: «فوجئت إن المطعم اللى كنت باكل فيه مع صحابى من فترة طويلة اتقفل بعد ما تسممنا»، ما دفعه لقرار العمل داخل مطبخ أحد مطاعم البيتزا الشهيرة بمنطقة الطالبية مثل أصدقائه لكشف المستور، لمعرفته الجيدة بإعداد البيتزا وحبه فيها: «الفساد فى كل مكان، لكن عمرى ما شفت إن المطاعم كلها أو أغلبها تبقى نفس الأداء، المحل اللى اشتغلت فيه معروف وكبير وليه اسمه، والناس بتاكل من عنده على طول، لكن منظومة إعداد الأكل جوه المطبخ تجيب الأمراض، وكل مكونات البيتزا جوه المطبخ غريبة، الجبنة العفن عليها وواضح، وبيستخدموا أطراف الجبنة الرومى اللى المفروض بتترمى، والطماطم بيضربوها وهى بايظة وبيحطوا عليها مكسبات طعم ولون». الأمر يبدو مختلفاً بالنسبة لمنير عبدالرازق، طالب بكلية هندسة جامعة القاهرة، لعدم قدرته على إيجاد عمل داخل أحد المطاعم بسهولة، لعدم معرفته بعالم الطبخ «مابعرفش حتى أقلى بيضة»، اختبارات عديدة مر بها الشاب بمطابخ المطاعم، حتى التحق بعمل داخل مطعم برجر بمنطقة المريوطية: «الشغل فى مطبخ المطاعم مش صعب، بس عايز اللى ليه فى المطبخ، وأنا الوحيد فى أصحابى مابعرفش أى حاجة عن المطبخ، لكن محل البرجر وافقوا عليا عشان مابعملش حاجة لأن دورى مخصص فى إنى أحط الخص والطماطم والبصل فى الساندويتشات بس بمقابل 25 جنيه فى اليوم»، الفساد الذى شاهده «منير» داخل المطبخ تمنى أن يوثقه ولو بصورة، لكنه لم يتمكن لأن محاولة توثيقه كانت سبب خروجه من المكان نهائياً: «الناس شافونى معايا الموبايل لأن المفروض بسلّمه فى الأمانات بلغوا عنى بعد ما قعدت اشتغل أكتر من أسبوع عشان أشوف بعينى التجاوزات اللى بتحصل فى المطبخ، واكتشفت خلال الفترة دى إن لحمة البرجر اللى بناكلها كلها بتبقى عبارة عن عضم مفروم واللحمة اللى بتتحط جواه لا تُذكر». خامسهم يبدو أكثر تحفظاً فى الحديث أو الظهور أو سرد رحلته مع كشف فساد أحد المطاعم الذى عمل به فى منطقة الزمالك، يقول مدحت سالم، الطالب بكلية ألسن جامعة القاهرة: «صاحب المحل يعرفنى كويس ويعرف مكان بيتى، عشان كده خايف يعرف إنى اشتغلت عنده عشان أفضحه، إحنا ماعندناش وثائق ماسكينها فى إيدينا عشان نبلّغ عن المطاعم اللى دخلناها وشفنا الفساد بعنينا، وعبدالرحمن بس الوحيد اللى قدر يصور الجبنة المنتهية الصلاحية، وأحمد صور منظر اللحمة قبل طبخها فى أحد المحلات المعروفة، وهما دول اللى هنقدم فيهم بلاغ، وبنتمنى يقفلوا المحلات دى بجد»، يلقى الشاب هو وأصدقاؤه باللوم على الحكومة لغياب الدور الرقابى، بداية من الطبيب أو المهندس وغيرهما، فالأمر لا يقتصر فقط على «تجار المأكولات السريعة»، يقول: «لو فيه مراقبين بيراعوا ذمتهم ماكانش الحال بقى كده، والناس تبقى مستهترة بالأرواح وكل همهم المكاسب، وإيه المشكلة لما واحد يجيله تسمم أو يموت؟، هيتكلموا عنه شويه والموضوع هيموت». لا يملك جهاز حماية المستهلك عصاً سحرية للرقابة، وليس بوسعه أكثر من المتابعة من خلال الحملات التى يتعاون فيها مع وزارة الصحة، وزيادة وعى المواطن بحقه فى طعام سليم.. قاعدة يؤكدها اللواء عاطف يعقوب «رئيس جهاز حماية المستهلك»، مشيراً إلى ضرورة تفعيل رقابة المواطن نفسه.