قبل ستة عشر عاماً زرت كوستاريكا للمرة الأولى، وكانت الدولة الأولى التى أزورها فى أمريكا اللاتينية. وقتها علمت أنها أيضاً دولة بدون جيش ولا وزارة دفاع أو حربية، بعد أن أُلغى بشكلٍ دستورى وبصفة دائمة عام 1949. اندهشت وقتها من هذه المعلومة النادرة، ثم راق لى المعنى من منطلق ذهن سلمى يتمنى أن يصير العالم كله على هذه الشاكلة. وجدت أن كوستاريكا تُعد البلد الوحيد فى أمريكا اللاتينية المدرج فى قائمة أقدم 22 دولة ديمقراطية فى العالم، وتُعد أيضاً من أعلى دول أمريكا اللاتينية فى مؤشر التنمية البشرية، حيث احتلت المرتبة 69 على مستوى العالم للعام 2011. * خطرت على ذهنى كوستاريكا وأنا أتأمل نشرات الأخبار التى لا تخلو من ملاحقتنا يومياً بأخبار الحروب والتقتيل وآثار الدمار، حتى تعودنا أن نرى الدماء والأشلاء والموتى ونحن نتناول طعامنا أو نحتسى مشروباتنا، فنتوقف قليلاً ونكتئب قليلاً ونبعد الصورة والخبر عن الذهن سريعاً، لكن الأمر الأخطر أن هذه الأخبار الكارثية قد أصبحت مجرد أخبار اعتيادية، نحسب فيها فقط مسافة الخوف: أين تقع منا هذه الحرب؟ وما مدى خطورتها؟ هذا الأسبوع جلست لأطالع إحصائيات عن ميزانيات التسليح عالمياً، من 2001 حتى 2011. فى العام 2001 بلغت ميزانية التسليح 1044 مليار دولار أمريكى، لتصل فى عام 2011 إلى 1738 مليار دولار أمريكى، أى زيادة بنسبة 40 فى المائة. أصابتنى هذه المعلومات بكثير من القلق، فالعالم كله أصبح بالفعل يقتات من الحروب، أصبحت تجارة منظمة ومقننة ومسموحاً بها بشكل «متحضر»، حتى أظن الآن أنها التجارة الوحيدة فى العالم التى لا يصيبها الكساد والاستثمار فيها مضمون. حكومات الدول الغربية لا تتوانى عن عقد صفقات كثيرة فى الخفاء، لا تعلن عنها بوضوح ليبقى وجهها مسالماً، بينما يعلو صوت مساعداتها الخارجية للدول الفقيرة من أجل تطويرها اقتصادياً وتعديلها إنسانياً فى سباقات الأمم على طيبة القلب والإنسانية. * طبعاً من الحمق أن نعتبر أن الغول الإمبريالى الغربى وحده هو السبب فى المآسى والحروب؛ فحكومات دولنا العظيمة أكثر إجراماً وتفريطاً فى أرضها وشعبها. ومقابل سرية الغرب فى التعتيم على تلك الصفقات، تتباهى حكومات الدول العربية بكل تسليح حديث، لتبيع دولة من العالم النامى سلاحها القديم الخردة لدولة أفقر ومن الأفقر للأكثر فقراً، وهكذا! خطرت على ذهنى كوستاريكا وأنا أتأمل تهديد المواطن الطيب فى أمنه وزعزعته بمخاطر الحرب والدفاع عنه التى لا تقل خسة عن أخطار العدو الحقيقى، فالمال يستنزَف فى إبرام العقود على أسلحة من الدرجة العاشرة، لن تصمد أمام صاروخ من أحدث طراز يُصوَّب نحوها، وكان بإمكان هذا الهدر المالى المتنامى أن يغطى الكثير من التكاليف اليومية والحياتية للمواطن المعدم، بدلاً من الحمق الأكبر، كما يثبت لنا التاريخ الحديث الآن. كيف يمكن استخدام هذه الأسلحة التقليدية محلياً فى الحروب والمنازعات الأهلية المزدهرة. * المعلومة الثانية التى أصابتنى بدهشة، هى ميزانية كل دولة مقارنة بالناتج المحلى الإجمالى لها، وهو الشكل الأقرب لفهمى، حيث نجد أن من بين العشر دول الأولى على مستوى العالم، سبع دول عربية وهى بالترتيب كالتالى: (عمان، قطر، السعودية، العراق، الأردن، إسرائيل، اليمن، أرتريا، مقدونيا ثم سوريا)، بينما تأتى مصر فى المرتبة 33 والسودان فى المرتبة 41 والنمسا فى الترتيب 148 عالمياً. وإذا أضفنا لهذه الميزانية ميزانية الصرف على وزارات الداخلية فى هذه الدول العربية، سنجد أرقاماً فلكية ستحبطنا، وكل هذا باسم توفير السلام خارجياً والأمن داخلياً. (فيينا فى 10 أبريل 2013)