هكذا تبدو «مشرحة زينهم»، بقعة صغيرة تنبض بالألم فى قلب القاهرة المرتبك بجموح الفوضى، لكنها لا تخلو من ضجيج حياة لها طعم بلا مذاق ولون ليس كالألوان. هنا فى باحات المبنى العتيق، فى أروقته المعبقة بروائح الموت، المعتقة بأسرار النهايات، يندلع الحزن «خاماً مقطراً» يشق الصدور، ويتمدد باتساع صحراء.. وهنا تشب الحياة على أطراف أصابعها، كى تعانق الفناء. ومن هنا أيضاً، تبدأ حياة كثيرين من «خلق الله»، يلتقطون أرزقاهم من بين الأحشاء، والأطراف المتيبسة فى الأحواض الرخامية والمعدنية، ومن فوق طاولات التشريح، ومن بين الحناجر المحترقة بلوعة الفراق، هنا الحزن «مدبب»كمنشار، وأيادى «أرزقية» المشرحة تتواثب على أسنته بخفة طائر.. هنا يوم عادى لكثيرين، ويوم استثنائى وفارق فى حياة آخرين، وبين هذا وذاك، تتوالى مشاهد يوم فى «مشرحة زينهم»، كما رصدتها «الوطن»: المشهد الأول: (الثامنة صباحاً).. يفتح الموظف شباك المكتب المخصص للتعامل مع أسر المتوفين، تبدو الأمور طبيعية للغاية، لا يوجد تقريباً ما يثير الانتباه.. المقهى المجاور للمشرحة، والذى يمتلكه شابان يفتح أبوابه لاستقبال زبائنه، أحدهما يرش الماء أمام المقهى والآخر يشعل النار فى موقد الفحم ويجلس الاثنان على باب المقهى فى انتظار «الفرج»، وفى الجهة الأخرى تخرج «نحمده» وهى سيدة فى العقد الخامس لتضع فاترينة حلويات وبسكويت ومناديل. المشهد الثانى: (الثامنة والنصف) داخل المشرحة، يجلس «سامح» وهو الموظف المختص بالتعامل مع أسر المتوفين منهمكاً فى إنهاء إجراءات تسليم جثة لذويها، وإلى جواره يجلس «هشام» الذى يرتدى «مريلة» من الجلد الأسود، وحذاء من البلاستيك وقفازات شفافة فى يديه، يشبه «هشام» بهيئته جزاراً فى سلخانة، لكنه هنا فنى تشريح الجثث الذى ينتظر تسلم قرارات النيابة الخاصة بالجثث الموجودة داخل المشرحة من «سامح» لتشريحها. المشهد الثالث: (التاسعة صباحاً) يتسلم هشام قرارات التشريح ويذهب إلى الثلاجات ويخرج الجثث ليضعها على تروللى ويذهب بها إلى صالة التشريح، يمدد الجثة داخل حوض من الأستاليس، على شكل حرف « L» يشق جسد المتوفى لإفراغ أحشائه داخل الحوض الصغير لأخذ العينات اللازمة ثم يعيد الباقى مرة أخرى داخل جسده ويخيط البطن والرأس، ثم ينقله بمساعدة زملائه إلى المغسلة، لأجراء الغسل والتكفين. المشهد الرابع: (العاشرة والنصف) فى المغسلة، يقف سيد الجبرونى، المسئول عن الغسل ومعه عماله بين عدد من الترابيزات المصنوعة من الرخام، يضع المتوفى على إحداها لتنظيف الجثة من الدماء بعد تشريحها ثم يحضرون التروللى ويفرشونه بالكفن ثم يضعون المتوفى وسط الكفن، تمهيداً لتسليمه لأسرته. المشهد الخامس: (الحادية عشرة والربع) يستريح الجبرونى ورجاله لشرب الشاى، وفجأة تشق صرخة سيدة أربعينية تدعى «أم محمد» صمت المشرحة، ويتواصل صراخها على نجلها «محمد السيد» الذى دخل المشرحة بمحضر رقم 1054 إدارى قطاع السجون بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة فى محبسه بسجن مزرعة طرة نتيجة تعاطيه جرعة زائدة من الهيروين. المشهد السادس: (الحادية عشرة والنصف) أمام باب المشرحة، حضر شقيق المتوفى وأخبروه بأنه داخل صالة التشريح فى انتظار حضور الطبيب الشرعى، فخرج وجلس مع بعض أقاربه على المقهى فى انتظار انتهاء عملية التشريح، بينما جلست النساء على الأرض يواسى بعضهن بعضاً. المشهد السابع: (الثانية عشرة ظهراً) حضرت 3 سيارات، إحداها تقل رجالاً والاثنتان للنساء، وتعالى من داخلها الصراخ والعويل، ثم هبط النساء والرجال من السيارات أمام باب المشرحة وذهب 4 شباب إلى الشباك يسألون عن جثة «وجيه لوندى حنين» فى العقد السادس من عمره والذى دخل المشرحة بالمحضر رقم 654 إدارى أول أكتوبر وكان يعمل حارساً لفيلا طبيبة فى منطقة أكتوبر ويقيم بمفرده فى غرفة ملحقة بالفيلا وتم العثور عليها مقتولاً أسفل سرير نومه.. سألت أسرته عن الجثة، فأجاب الموظف: «انتظروا حتى يتم تشريحه» المشهد الثامن (الواحدة ظهراً): سيارة إسعاف تدخل المشرحة، يخرج السائق لتسليم أوراق جثة خاصة بشاب فى العقد الثالث من العمر، قتل بطلق نارى فى القلب، قام فنى التشريح بمناظرة الجثة وأثبت أنه يرتدى «بنطلون جينز أزرق وبلوفر وحذاء كوتشى» ولم يتم العثور على أية أوراق تثبت هويته، فتم حفظ الجثة فى الدرج رقم 4 بالثلاجة. المشهد التاسع: (الثانية إلا الربع) تحضر سيارة نقل الموتى «تحت الطلب» بداخلها شابان وسائقها، نزلوا جميعا منها ووقفوا على شباك المشرحة وقاموا بتسليم أوراق جثة داخل السيارة ومن الأوراق تبين أنها جثة «مينا ناجح نخنوخ» فى العقد الثالث من العمر والذى لقى مصرعه حرقاً، طلب منهم الموظف إنزال الجثة وحضر فنى التشريح وقام بمعاينة الجثة ومناظرتها وتم وضعها فى ثلاجه 7/8 بمحضر رقم 560 إدارى الزاوية الحمراء. المشهد العاشر: (الثانية ظهراً) أعلن شباك المشرحة عن انتهاء تشريح جثة محمد السيد، حضرت أسرته إلى الشباك ومعهم الكفن الخاص به أحدهم استلم التقرير المبدئى للطب الشرعى، وذهب إلى مكتب صحة زينهم لاستخراج شهادة الوفاة، وتصريح الدفن، ودخل اثنان منهما بالكفن إلى المغسلة، وبعد ربع ساعة خرج أحدهما مهرولاً يبحث عن مكان لشراء عطر المسك وبعد ربع ساعة خرجت أول جثة من المشرحة فى طريقها إلى المقابر، واكتظت منطقة زينهم بالعشرات من الأهالى رجالاً ونساء وارتفعت أصوات الصراخ والعويل، وبدا شباك المشرحة مثل فرن العيش البلدى حتى إن الموظف طلب من الأهالى الوقوف فى طابور. المشهد الحادى عشر (الثالثة ظهراً) يخرج الشيخ سعيد وهو أشهر مغسل فى المشرحة من باب المغسلة لينادى على أسرة «وجيه لوندى حنين» وطلب منهم أن يدخلوا معه لرؤيته أثناء تغسيله وأخذ منهم الملابس التى أحضروها للمتوفى لارتدائها مثل الكفن عند المسلمين، ودخلوا جميعاً وبعد نصف ساعة خرج الصندوق إلى سيارة نقل الموتى وخرجوا من زينهم، ثم خرج شخص يرتدى بدلة زرقاء مكتوباً عليها «حنوطى الجبرونى» وقام بالنداء على أسرة سيد عبدالحميد جودة فأجابت سيدة بأنه شقيقها، وسألها عن الكفن فطلبت منه أن تذهب إلى المقهى للنداء على شقيقها وبالفعل حضر شقيقها ومعه الكفن وشخص آخر ودخلا مع الحنوطى إلى المغسلة، ودار همس عن المتوفى الذى فارق الحياة منتحراً بإلقاء نفسه من أعلى، وامتد الحديث إلى حياته وأنه كان متزوجاً من سيدة وطلقها ثلاث مرات وبعد ذلك تعرف على ضابط شرطة وطلب منه أن يتزوجها كمحلل ونظراً لكون المتوفى يمتلك أموالاً طائلة، فوافق الضابط على الفور وتزوجها وعندما طلب منه أن يطلقها رفض بالاتفاق مع زوجته، ورغم دفع مبالغ طائلة للضابط، فإنه رفض طلاقها، فقام المتوفى بتعاطى أقراص «أبتريل» المخدرة وألقى بنفسه من شرفة الشقة، انتهى الحديث عندما حضرت سيارة نقل الموتى إلى داخل المشرحة وخرج المتوفى وسط صراخ وعويل من أسرته، وبمجرد خروجه خرج الشيخ سعيد ومعه أحد العاملين فى المغسلة وقاما بالنداء على بعض الأسر وفى النهاية استقرا على أسرة المتوفى عيد السيد جمعه وطلبوا الكفن والدخول معهما إلى المغسلة لحضور عملية تغسيل وتكفين المتوفى. المشهد الثانى عشر (الرابعة إلا الربع) (خارج المشرحة) جلس عدد من الأهالى فى انتظار قدوم جثث جديدة أو خروج جثث موجودة أو فى انتظار تصاريح العبور إلى الآخرة، كان صاحب المقهى يحاسب الزبائن قبل احتساء الطلبات، ويبرر ذلك: «الناس بعد الثورة كلها بقت بلطجية وكل واحد تكلمه أو تطالبه بالحساب يقول مش دافع واللى معاك اعملوا وطبعا إحنا مش بتوع مشاكل وفى ناس بيشربوا وبعدين تيجى الجثة بتاعتهم فيسرعون إلى سياراتهم للحاق بها وربنا يعوض على، فوجدت أن أفضل شىء هو أن يدفعوا الحساب قبل نزول الطلبات، الجثث أصبحت كثيرة بعد الثورة وطبعاً بتورد علينا ناس كثيرة بس قبل الثورة الوضع والرزق كان أفضل عشان الناس كانت محترمة». المشهد الثالث عشر (الرابعة) تخرج آخر جثتين وهما لنبيل موسى فهيم ومينا ناجح نخنوخ، وبذلك تكون المشرحة قد أخرجت 7 جثث. المشهد الرابع عشر ينصرف الموظفون والأطباء الشرعيون، وتخلو المشرحة تماماً فى الرابعة والنصف. المشهد الخامس عشر ينشط عمال المغسلة لتنظيف المشرحة من الداخل وغسلها من الدماء التى تملأ الأرضية ونقل ملابس المتوفين، ويغلق المقهى أبوابه ليسود الصمت المنطقة التى تحولت إلى ما يشبه «الجثة» فبعد أن كانت تضج بالحركة والصراخ والعويل تتوقف الحياة تماماً ويسدل الظلام أستاره على المنطقة لتصير أكثر رعباً، بينما تنتشر الكلاب الضالة فى محيط المشرحة تتحرك بحرية حراس الليل، تؤنس وحدة الحراس من البشر، وتضخ فى أروقة المنطقة رعباً وهلعاً بلا آخر.