لا يمكن لأى تحليل منصف أن يتجاهل التقدم الكبير الذى أحرزته تركيا على يدى أردوغان، منذ اعتلى سدة السلطة فى العام 2003. فقد تسلم الرجل رئاسة وزراء هذا البلد العريق فى وقت تدنت فيه معدلات نموه، وزادت ديونه، وتراجعت مكانته الإقليمية والدولية، فإذا به يأخذه إلى آفاق جديدة من النجاح والازدهار فى أقل من عشرة أعوام. عندما ترك أردوغان رئاسة الحكومة التركية، بسبب اعتبارات قانونية تمنع تمديد فترات رئاسة مجلس الوزراء، كانت بلاده تحتل مكانة كبيرة ومميزة، وتتحول إلى لاعب أساسى فى منطقة الشرق الأوسط، وتتعامل مع الاتحاد الأوروبى بندية، وتحتل موقعاً فى قائمة الاقتصادات العشرين الأكبر فى العالم. تلك قصة نجاح لا ينكرها أحد، لكن بموازاة تلك القصة كان هناك مسلسل من الألاعيب السياسية، والتدخلات فى شئون الآخرين، واللعب بنار الطائفية والإرهاب، والكيل بمكاييل متعددة. لقد تورط نظام أردوغان فى دعم منظمات متطرفة وإرهابية تقاتل فى سورية، وأصبحت بلاده على مدى خمس سنوات بوابة مفتوحة لمرور المقاتلين الأجانب إلى داخل هذا البلد المنكوب. ليس هذا فقط، بل إن أردوغان، الذى أظهر هوساً كبيراً بالسلطة، لم يشأ أن يبتعد عن المشهد بعد نفاد مدد ولايته المقننة كرئيس للوزراء، فتنافس على منصب الرئيس، ذى الصلاحيات الشرفية، وما لبث أن تلاعب بالدستور، فوسع نطاق صلاحياته على حساب رئيس وزرائه آنذاك داود أوغلو، الذى اصطدم به لاحقاً، قبل أن يطيح به ويأتى ب«بن على يلدريم» رئيساً للوزراء. يريد «أردوغان» الآن أن يحافظ على مكانته كرأس السلطة التنفيذية والمتحكم الأول فى شئون البلاد، وبالتالى فليس أمامه سوى أن يغير الدستور، ليصبح النظام التركى نظاماً رئاسياً، يسمح له بتكريس «النزعة السلطانية» التى طالما رأى نقاده أنها تحركه. لكن علاقاته الخارجية والداخلية أخذت فى التدهور بسبب خشونة سياساته، وانفراده بالقرار، واهتمامه الكبير بتكريس «كبريائه وعظمته»، بما يعيد أمجاد الخلافة الإسلامية، التى يريد أن يسترد من خلالها الدور الإمبراطورى المفقود. فقد اصطدم أردوغان بإسرائيل، وأغضب روسيا، وحارب سوريا، وعادى مصر، ووتر علاقات بلاده مع الاتحاد الأوروبى، وضغط على حلفائه الخليجيين. وبدلاً من أن يجد نفسه فى محيط سماه رئيس الوزراء المبعد داود أوغلو «صفر من المشاكل»، وضع تركيا فى محيط يمكن تسميته ب«100% مشاكل». من أكبر مميزات أردوغان أنه ذكى وشديد البراجماتية، ورغم أن «كبرياءه السلطانى وفخره القومى وتصوره الدينى» يؤثر تأثيراً كبيراً فى سلوكه، فإنه يمتلك المرونة اللازمة لكى يغير اتجاهه بنسبة 180 درجة لتحقيق المصلحة. فتلك روسيا التى تعالى عليها بعدما أسقط طائرتها الحربية، رضخ لها واعتذر اعتذاراً مهيناً، لكى يستعيد العلاقات معها، وينشط التجارة والسياحة، ويوقف الدعم العسكرى الروسى المحتمل للأكراد الراغبين فى الانفصال عن دولته. وتلك إسرائيل، التى أوهم عرباً ومسلمين أنه عدوها الأول، خصوصاً بعد حادث «مرمرة»، راح يخطب ودها، ويوقع الاتفاقيات للتطبيع معها. أما مصر، التى ملأ الدنيا صراخاً وشتائم بحقها، لأنها «أجهضت حلم تابعيه الإخوان» فى السيطرة عليها، فقد راح رئيس وزرائه يشير إلى إمكانية التطبيع معها، وتطوير العلاقات الاقتصادية، وعقد لقاءات بين مسئولى البلدين، وحتى التنسيق العسكرى. تلك قصة يمكن أن تأتى تحت عنوان «لا عداوات دائمة ولا صداقات دائمة»، أو تحت عنوان «براجماتية رجل دولة»، لكن المغزى الأكبر بالنسبة إلينا فى مصر لا يتعلق بهذا العنوان أو ذاك، ولكنه يتعلق بعنوان آخر اسمه «فرق عُملة»، وهو عنوان يتحدث عن هؤلاء الذين ربطوا مصائرهم بالرجل، أو اطمأنوا إلى مساندته لقضيتهم البائسة، وهؤلاء سيكونون «فرق عملة» على مذبح مقايضة يتقنها سياسى براجماتى، أصبحنا جميعاً نعرفه الآن.