لصديقى الروائى «فؤاد قنديل» محبة الأدب، والإخلاص له، وعبر خمسين عاما تقريبا أبدع الرواية والقصة والمقال، حتى أصبح فؤاد شبه ما يكتبه.. لقنديل لغته، وعالمه الغنى، فى القرية والمدينة، وله أشخاصه الذين يسعون على الورق طالبين الستر، وله أسطورته المسكونة بالأرواح والعجائب.. وبسبب من كل هذا منحته مصر جائزتها التقديرية ليتوج حياته بها. قضى فؤاد قنديل عمره يمجد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى حلله وترحاله، وكان له أبا كريما بما له، وما عليه، وهو فى أحوال كثيرة، إذا ما جاءت سيرة الزعيم الخالد طفرت الدموع من عينيه، وتهدج صوته بالعاطفة فيما أنا أراقبه بدهشة، وأحسده على عواطفه التى أفتقدها أنا تجاه الرجل. يداهمك فؤاد قنديل دائما، مقدماً كشف حسابه التاريخى، وتقريره الوطنى عن الرئيس الراحل: كان زعيما للأمة.. تنكر؟! ساند كل حركات التحرر فى عالمنا الثالث.. كده ولا لأ؟! أقام التصنيع وأمم القناة وبنى السد العالى، وضحى بعمره فى سبيل الوحدة العربية. يصرخ، ويعدد، مستشهدا بأحداث ذلك الزمان، وأنا أكمل إحصائياته وأنجز هزيمة يونيه/ حزيران 67.. وكدس الأوردى وأبوزعبل والسجن الحربى ومعتقل القلعة بأصحاب الرأى والمختلفين.. مش كده؟! عند ذلك، ينصرف عنك فؤاد وكأنك تكلم نفسك!! حكى لى فؤاد قنديل مرة حكاية لها العجب: كان هو قد أنهى دراسته، وتمكن فى العام 1968، والهزيمة تتفاعل مثل كيمياء فى الواقع المصرى، فى ذلك الحين عمل فؤاد قنديل محاسبا فى استديو مصر، وعن تلك الفترة كتب الكثير.. كان رئيسه فى العمل الأستاذ أحمد المصرى، وهو أحد الضباط القادمين من يوليو 1952، وقد شكل جماعة من الضباط لعمل انقلاب ضد عبدالناصر الذى ضبطه، وسجنه من السنين ثلاثا، وبعد خروجه رضى عنه وأسند إليه وظيفة الإدارة فى الاستديو.. كان الرجل يحب فؤاد قنديل، يتكلمان معا فى السياسة، ويناقشان قضايا الوقت بمودة طيبة.. كان العم أحمد المصرى صديقا لنائب الرئيس حسين الشافعى بجلالة قدره، يزوره فى بيته بين الحين والحين.. مرة اصطحب فى رفقته الكاتب فؤاد قنديل الذى كان فى هذا الوقت على عتبة الشباب، وكان نحيلا تنفخه الريح يطير إلا أن الله مَنَ عليه وامتلك حجة النقاش، ومنطق الجدل، ونباهة الكلام فى السياسة، خارجية وداخلية، حين وصلا كان فى ضيافة حسين الشافعى سيد مرعى، وبعض الأسماء التى يعرفها فؤاد من الصور. قدم العم أحمد فؤاد للجماعة وواصلوا حديثهم، كان الجماعة يجلسون فى استرخاء، يرطب جوهم تكييف الفيلا المركزى، ويشيع فى الأنحاء جوا من رفاهية تحيط بالعساكر حكام مصر المحروسة، الذين يعيشون الدنيا مثل الحلم، والله سبحانه قد مَنَ على عباده بالسلطة والعيش الرهيف. كان أمامهم طبق من الكريستال ممتلئ حتى حافته باليوسف أفندى.. كانت فاكهة غريبة الشكل مما دفع فؤاد قنديل أن يهمس بين نفسه فاكهة الشتاء فى الصيف!! حاجة غريبة!! مضى القليل من الوقت، ودخل المهيب، وفزع الجميع وقفزوا واقفين «أهلا يا ريس» وكان هو عبدالناصر.. يقول فؤاد وكأنه لا يزال يعيش الحدث. تحجب عنا الرؤية بمهابته.. كان طويلاً، حاولت النظر فى عينيه فى خطفة إلا أننى تراجعت أمام النظرة الجسورة والعين المصرية. جلس عبدالناصر، وبعد قليل مد يده والتقط ثمرة من اليوسفى وزنها بيده، ثم قشرها، ووضع فى فمه بعض الفصوص، ثم قال: والله يا مرعى وبقيت بطلع يوستفندى فى عز الصيف!! ضحكوا، فاستغرب، وسألهم باستنكار.. تدارك الأمر حسين الشافعى وقال لعبدالناصر: - يوستفندى إيه يا ريس اللى هيطلعه سيد مرعى فى عز الصيف؟! ده لسه واصل حالا بالطيارة من فرنسا. ليت حسين الشافعى ما قال جملته لأن فصوص الثمرة وقفت فى حلق عبدالناصر، واجتاحت وجهه الألوان، وبرقت عينه مثل الرعد، وبصق ما فى فمه وهم واقفا يقاوم دوار رأسه، ومضى حيث بيته فى الجوار. استدعى حسين الشافعى سائقه، وقبض على طوقه وصرخ فيه: - وراه.. توصله بالعربية.. وترجع.. تسجل فى رأسك كل تصرفاته وكلامه وتحضر على جناح السرعة.. فاهم؟! ودفعه فى ظهره ومضى السائق يسابق الريح. حين عاد، كانوا قد ماتوا ألف مرة.. استحثوه.. انطق قال إيه؟ قال السائق بشجاعة: قعد ساكت وفجأة أخذ يضرب ظهر الكرسى ويصرخ بعالى الصوت مثل المجانين.. الخونة.. الكلاب.. البلد غرقانة فى الهزيمة وهم يطلبوا الفاكهة من باريس. ثم نظر من نافذة السيارة ناحية السماء، وكأنه يطلب العون.