الحمد لله.. سمعت فى طفولتى كبار السن يتداولون خبراً عن فتوى نُسبت إلى أحد المفتين فى الجزيرة العربية بعدم كروية الأرض وعدم دورانها، وأن ما نقلته وسائل الإعلام آنذاك عن هبوط نيل آرمسترونج على سطح القمر مجرد كذبة أمريكية، وأن الصور المنقولة كانت مزيفة وأنه لم يكن إلا هبوطاً فى صحراء على الأرض، وكان الحديث محل تندر وتفكّه. وأصبح ذكرُ هذه الفتوى فى السنة التى توفى فيها نيل آرمسترونج محلَّ غضبٍ لفريق وسُخْطٍ لآخر؛ إذ لم يتحمّل الفريق الغاضب من الذين عُرفوا بتبجيلهم لذلك المفتى تصوّرَ انتقاده ولم يخطر ببالهم تقبُّل نسبة الخطأ إليه.. وذلك على الرغم من اعتقادهم أنه غير معصوم وانتقادهم اللاذع لمخالفيهم بأنهم «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ». وقد اشتد غضبهم مِن تطاول «السفهاء» على أصحاب الفضيلة العلماء والمشايخ والدعاة، وتكررت نماذج تشويه المشايخ كالتى فى فيلم «الزوجة الثانية»، لكن بصورة أشد ضراوة وأكثر نكاية وأخفّ ظلاً. وقد أرعد إعلامهم وأبرق، ثم أمطر سباباً ولعناً وقذفاً وتكفيراً وتخويناً على الإعلام الفاسد المُنحل الذى ينشر المجون والفساد والرذيلة، ويتطاول على أهل الدين وعلماء الشرع وأصحاب الفضيلة. وقد فاض كيلهم من تظاهر الفاسدين بالفسق والفجور، وبلغ سيلهم الزبى من جرأة الجهلة بدين الله.. ثم قرأت لمن ينفى صحة نسبة الفتوى إلى ذلك المفتى، رحمه الله، ويستشهد بفتوى له تؤكد كروية الأرض.. وبعد بحث تبين أنه بالفعل لم ينفِ كروية الأرض، لكنه نفى أنها تدور، وقال باستحالة هبوط الإنسان على سطح القمر، مستشهداً بما توهمه أدلة من القرآن الكريم! وبالطبع رفض كبار العلماء هذه الفتوى ورد عليها الإمام الشعراوى ردّاً جميلاً ونسبها د. مصطفى محمود إلى العقل المُتحجّر، واعتبرها الشيخ محمد الغزالى من الفقه المُتصحّر. وعندما انتشرت شائعة إعلامية تشكك فى وصول نيل آرمسترونج إلى القمر هلّل هذا الفريق وكبّر وصرخ فى وجوه المنتقدين: ألم يقل لكم الشيخ إن هذا الأمر مستحيل؟ ألم يستشهد بآيات من القرآن فلم تصدقوه؟ وهمس بعضهم قائلاً: لن يصدق هؤلاء أن الأرض لا تدور إلا عندما تأتيهم وكالة أنباء كافرة باكتشاف يؤكد ثباتها! إنّ تذكُّر هذه الفتوى اليوم صار محل سُخطٍ عند الفريق الآخر، وهو فئة متسعة من الشباب لم تعد تحتمل تكرر عقلية محاكم التفتيش التى أسسها البابا جرينوار التاسع.. فأحرقَتْ برونو وجان هوس وحاكمت جاليليو واضطرت كوبرنيكوس إلى أن يُخفى نظريته عن دوران الأرض حول الشمس إلى يوم وفاته، وكل ذلك ارتُكب باسم الدين.. وقد ملّت هذه الفئة من السكوت عن تخلف الأمة عن ركب الحضارة الإنسانية وبقاء دولنا تحت وطأة التبعية والعيلة، وإهدار طاقات الشباب فى نقاشات لا تغنى ولا تُسمن من جوع. ولم تعد تحتمل أن يُسلَّط على الرقاب سيف الدين أو يلهِب الظهورَ سوطُه فى كل تحرك يتحركونه وفى كل مجال يخوضونه من المجالات العلمية التجريبية أو الاقتصادية أو السياسية.. فغدت رافضة لتسلّط الآخرين باسم الدين على حياتهم وتقييدهم لتحركاتهم وعدّهم لأنفاسهم ومحاسبتهم على أحلامهم.. وهذه الفئة هى التى لم تعد تستسيغ الحديث عن الإعجاز العلمى للقرآن بعد اكتشاف أخطاء كثيرة لعدد ممن تسابقوا فى مضمار بطولة من يأتى بإعجاز جديد ولو باعتصار حروف كلمات آية كريمة من القرآن ولَىّ عنقها ليستخرج «إعجازاً علمياً» منها.. والتى اشمأزت من فوائد مرابحة البنوك الإسلامية التى صارت أكثر إيغالاً فى امتصاص محدودى الدخل من البنوك الربوية، وأسوأ حيلاً فى تعاملاتها.. والتى لم تعد تحترم الحديث عن أسلمة المعرفة بعد نماذج الإدارة الإسلامية، والقيادة الإسلامية، التى لم تختلف كثيراً عن الإدارة الرأسمالية والقيادة الانتهازية سوى بإقحام نصوص الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة عليها لإعطائها ختم الأسلمة على غرار «حلال فود» دون أى جهد يُذكر فى مراجعة منطلقات تعاملها المنبثقة من رحم مرحلة ما بعد الحداثة.. وتأملت هذه الحالة من الانقسام والتفرق بين أصحاب الوطن الواحد بل أبناء الأب الواحد أحياناً.. فوجدت أن «الدين» هو قطب رحاها «الظاهر» للأعين.. فتساءلت متعجباً: كيف يكون أساس هذا التنافر هو الدين؟ الدين الذى جاء ليجمع أشتاتهم المتفرقة ويفتح عين بصائرهم المغلقة ويطلق عقال عقولهم العالقة وينتشل سفينة نفوسهم التى أصبحت فى أوحال المطامع غارقة! وهل جاء الدين مناهضاً لعقل الإنسان وانتصاره لحريته؟ وهل ينتصر الإنسان لعقله بزعم حريته فى إيذاء إنسان آخر بإهانة مقدساته، وانتهاك عِفّة سمعه وبصره؟ وعبثاً حاولت أن أجد ما يبرر هذا التضاد المُتوهم بين نصرة الدين وتعظيم العقل والحرية.. وبحثت فى النصوص الحاكمة لقواعد هذا الدين فوجدت أن مناط التكليف الشرعى يقوم على العقل والحرية؛ فالمجنون يسقط عنه التكليف، والمُكرَه تسقط عنه المؤاخذة! فكيف أصبحت «العقلانية» تُهمة من وجهة نظر من ينتسب للدين؟ وكيف أمسى التحرر «سُبَّة» عند من ينتسب إلى الدعوة؟ وكذلك الأمر مع العقل والحرية؛ فقد حاولت مراراً أن أفك شيفرة ضرورة معاداته لمعتقدات الآخرين ومفاهيم العفاف لديهم، وقرأت لأساطين الديمقراطية وفلاسفة الليبرالية فوجدتهم يطالبون باحترام رأى الأغلبية والانصياع لرغبتها وينشطون لحفظ حقوق الأقلية وعدم جرح مشاعرها.. فكيف أصبحت مراعاة الآداب العامة تخلفاً عند من ينتسب للديمقراطية؟ وكيف أمسى احترام المقدسات نقيصة لدى من ينتسب إلى الليبرالية؟ لعلها سكرة المطامح النفسية والأهواء التسلطية هى ما تُفسر مثل هذه التناقضات.. ولعله التكاثر بالأتباع هو الذى ألهى العقول وغيّب الموضوعية عن كثير من هذه السلوكيات.. ربما، وربما اختلط الأمر على فهمى القاصر.. لا أريد الحكم ولا الجزم؛ لأن النيات والمقاصد غيب لا يجوز لمثلى أن يقتحم هيبته؛ ففيه ظلمة التألى على الله تعالى وظلامة التعدى على خلقه.. ولا أريد الانصياع لهوى النفس وميلها نحو سوء الظن وهو السلوك الذى نفرتُ بسببه من تصرفات الفريقين.. ولكن السؤال يبقى مطروحاً بين يدى القارئ الكريم: «يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ»؟ غرّنى كرمُك.. فسامحنى يا كريماً لا يُخيّب من رجاه..