من ناحية أخري، هنا سنضرب مثالين لعالمين مسلمين، قدما النموذج المنتظر للإعجاز العلمي للقرآن الكريم، كما يقتضيه أسلوب العصر وروحه العلمية، هما العالم الرياضي الفيزيائي الباكستاني د. "محمد عبد السلام"(1926 1996م)، والعالم الجيولوجي المصري" د."فاروق الباز"(1يناير 1938م)، لنتعرف معهما علي تذوق آخر للنص القرآني، ومعني مغاير للإعجاز العلمي للقرآن الكريم، فقد وقفا بالنص المقدس أمام العلم، ولم يقفا بالعلم ليجر المقدس خلفه كما يظن الكثيرون، ونكشف عبر تلك الرؤية إلي أي مدي كانت أحاديث الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، صناعة سياسية للنص المقدس. محمد عبد السلام الباكستاني ولد د."محمد عبد السلام" في محافظة"جهانج" بالبنجاب، عندما كانت تابعة للهند، والده عمل مفتشاً بمدارسها، تخرج في الجامعة الحكومية بلاهور في العام 1944م، في سن مبكرة ونال الماجستير في الرياضيات منها بعد سنتين، فتأهل لمنحة دراسية في جامعة كمبريدج بانجلترا، فكان ترتيبه الأول علي دبلومتين في الرياضيات البحتة، والفيزياء، فسافر بعدها إلي نيوجيرسي بالولايات المتحدةالأمريكية، وفي عام 1951م، أنتخب زميلا للأبحاث العلمية في كلية سانت جون، وهناك لمع اسمه دوليا بسبب أبحاثه، كأحد العلماء المتميزين، فنال جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1979م، وغيرها من الجوائز العلمية العالمية، فقبلها قد نال وسام نجم باكستان في عام 1959م، ووسام "ماكسويل" عام 1961م، يعود إبداعه العلمي إلي انه كمسلم آمن بالقرآن الكريم وأن الله خلق من كل شيء ذكر وأنثي الآيات: «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَىْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَي» (45) سورة النجم، «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَىْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَي» (39)سورة القيامة، و «وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَي» (3) سورة الليل، فقرأ الرياضيات والفيزياء بهذه الروح الإيمانية للنص المقدس فأدرك أن هناك حتماً السالب والموجب، امتداداً لمفهوم الذكر والأنثي، وكذلك في الأرقام، وفي الشحنات الكهربائية التي توجد داخل نواة الذرة، فأوحي لأستاذه"ديرياك" أعظم علماء القرن في الفيزياء بأن القول بوجود الإلكترون السالب فقط في مدار الذرة قول ناقص، لإيمانه بحتمية وجود الشحنات الموجبة المقابلة، ولذا استمرت أبحاثه مع أستاذه حتي اثبت أن"البوزيترون" الذي اكتشفه"كارل أندرسون" في عام 1932م، يحمل شحنة موجبة، وليس عديم الشحنة، كما كان مستقراً في مفهوم علم فيزياء الذرة، واستمرت أبحاث د."عبدالسلام" بروح النص القرآني منفرداً بعد ذلك، مؤمناً بالكشف عن الذكر والأنثي في الفيزياء، فقام بالاستمرار في البحث عبر قناعته بضرورة أن يكون لكل سالب موجب، فلم يقتنع بأن"النيوترون" عديم الشحنة كما اجمع العلماء من قبله، فاثبت أن له شحنة، وله كتلة، فغير من مفاهيم وتطبيقات ميكانيكا الكم، ليقدم نظريته لتطوير نظرية توحيد القوي النووية، معتمدا علي أنهم كانوا في الأصل رتقاً واحداً تم فتقه كما ورد في الآية» أَوَلَمْ يرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيءٍ حَي أَفَلا يؤْمِنُونَ»(30) سورة الأنبياء، فيجب أن تكون هناك إمكانية لعودة الرتق إلي ما كان مفتوقاً من قبل، والذي يعنينا هنا كيف أن د."عبد السلام" تحرك منطلقاً من القرآن إلي العلم، ولم يتحرك عائداً من العلم إلي القرآن، فإيمانه بصدق الكتاب المقدس الذي يؤمن به، كان هو الموجه لإصراره علي وجود نتيجة علمية يتوقعها، ويتخيلها عبر عقيدته الإيمانية، فانكب يبحث عما يؤمن به بالتجربة العلمية، وهنا يكون"عبدالسلام". قد حقق معني الإعجاز العلمي المنتظر من القرآن الكريم، بأن غير من مفاهيم العلم الحديث تبعاً لقناعته بروح النص، وليس القيام بتغير مفاهيم النص تبعاً لمكتشفات العلم، وهو هنا لم يقف علي الجزئيات، كما يقف عليها أعيان الإعجاز العلمي للقرآن الكريم المتشدقين به، ولم يدلل علي وجود "النيوترون" في القرآن الكريم ليثبت صدق النص، وإنما استوحي روحه الشمولية في حكمة الخالق الواحد للكون، وثبات منهجه، فكانت المعجزة العلمية كاشفة عن رؤي جديدة لمعجزة الخالق، وليس لمعجزة النص. فاروق الباز انه د."فاروق الباز" العالم المصري لامريكي الذي ولد في قرية"طوخ" إحدي قري مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، وتلقي تعليمه الأول في محافظة دمياط، واخبرني «حماي» رحمه الله بإذنه انه كان يحفظ القرآن في كتاب جامع البحر علي يد والده الشيخ"عبد الحي السلاموني" جد زوجتي، وحصل علي شهادة البكالوريوس في الجيولوجيا في جامعة عين شمس في العام 1958، ثم درجة الماجستير فيها في عام1961م، في معهد علم المعادن بولاية ميسوري الأمريكية، ثم نال درجة الدكتوراه في الجيولوجيا الاقتصادية في عام 1964م، إلا أن شهرته العالمية، تعود إلي عمله مع وكالة "ناسا" الأمريكية مدرباً لرواد الفضاء في رحلة "أبولو" للهبوط علي سطح القمر، في عام 1969م، واختيار موقع هبوطها، والذي يعنينا في مقامنا هذا هو اختيار"ناسا" لبرنامجه لتدريب رواد الفضاء، ليكون هو البرنامج المعتمد لتأهيلهم، وتدريبهم علي المشي في الفضاء. هنا نجد د."فاروق الباز" يقدم نموذجا آخر وهو كيف يكون النص القرآني موجهاً بروحه إلي العلم، واكتشاف تقانات جديدة، فلما سُئل عن سر اختياره لبرنامج تدريب رواد الفضاء علي السباحة، ليكون هو التدريب المؤهل لهم للمشي في الفضاء، أجاب ببساطة شديدة انه من الآية «لَا الشَّمْسُ ىَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يسْبَحُونَ» (40) سورة يس، فقد آمن بالآية التي توحي بأن الكواكب تسبح وهي تتحرك في الفضاء. فكان برنامجه لتدريب رواد الفضاء محاكياً لحركة الكواكب في الفضاء بالسباحة، فتم إعداد حمامات سباحة في وكالة ناسا لتنفيذ الآية رقم (40) من سورة يس لكي تكون برنامج تدريب هبوط أول إنسان علي سطح القمر، وسيره في الفضاء، هنا كان د."الباز" متحركاً في الفضاء بروح النص المقدس، فتمكن بفضل حفظه لآياته وإيمانه بها من أن يكون قناعة لشكل حركة رواد الفضاء في الفضاء، فتحرر النص من اسر الكلمات ليصبح نصا نابضاً بالحياة في خارج الفضاء، فأنتج القرآن تقنية علمية ساعدت الإنسان علي الوقوف علي سطح القمر، بينما وقف أنصار الإعجاز العلمي عند حدود الآية «ىَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ» (33) سورة الرحمن، ورغم اعترافهم بأن المقصود بالسلطان هو العلم، إلا أنهم لم يقدموا لهذا العلم أي جديد. كما أن الآية"كل في فلك"، تركيب حروفها منفردة هي"ك.ل.ف.ي.ف.ل.ك" يعكس شكل حركة الكواكب في الفضاء عبر الأفلاك الدائرية، فهي تقرأ من اليمين، كما تقرأ من اليسار، لتشكل في بنائها دائرة مغلقة لحركة الكواكب في الفضاء وهي تسبح، وهنا يتحد اللفظ المكتوب مع البيان التصويري للمعني، فقامت وحدة القيادة في المركبة"ساترون5" بالدوران حول فلك القمر في مداره بينما تهبط الوحدة الأخري علي سطحه، ثم عادت للالتحام معها مرة أخري في رحلة عودتها للأرض، فأضاف القرآن الكريم للعلم دليلا منظورا قبل اكتشاف الإنسان لوسائل التصوير الميديوي بزمن، ومنح المؤمنين به فرصة الوجود في عوالم لم يوجد فيها إنسان من قبل، فتمكن العقل العلمي من استلهام النص المقدس لخدمة العلم، فطور مفهوم الإنسان عن واقعه الذي يحياه. الإعجاز العلمي الإسلامي لاشك أن علاقة العلم بالمسلمين كانت نتاج علاقة السلطة السياسية بالقرآن الكريم، وان هذه العلاقة التي يكشف التاريخ عن مدي ، هي التي دفعت لكي تكون علاقة المسلمين بالعلم علي هذا النحو المتجلي في موقفهم من الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، حيث إن الإعجاز العلمي للقرآن الكريم ما هو إلا نتاج قراءة خاصة للنص المقدس، هدفها عزله عن سياقه المعرفي، وتقديمه هدية إلي الحاكم لكي يتلاعب بعقول المحكومين علي نحو يشغلهم عن حقهم في مشاركته للحكم، وإبداء رأيهم، أو عزله، فهي قراءة من اجل صناعة العقول التابعة، فبدأت القطيعة المعرفية للمسلمين مع العلم كعلم مجرد، منذ يوم أن تولي"عبد الملك بن مروان" الخلافة ووضع المصحف في حجره، وقال: "هذا فراق بيني وبينك"، علي حد قول"الطرطوشي" في كتابه"سراج الملوك"، وأصبح كل شيء في حجر السلطان من يومها، وعليه فإن هدفنا هو أن يتحول الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، إلي الإعجاز العلمي الاسلامي، بتحرير العلم في مجتمعاتنا من السلطان السياسي فالنموذجان اللذان ضربناهما كانا لعالمين مسلمين مارسا العلم خارج مجتمعاتهما الإسلامية، وانه ما كان لهما أن يحققا ما حققاه لو قبعا في داخلها، ليس بسبب الإمكانيات، وإنما بسبب طبيعة القراءات التسلطية للنصوص المقدسة المتراكمة عبر التاريخ بفضل رجال الدين الخلّص، تلك الحرية التي نعم بها كل من د."عبدالسلام" و د."الباز"، في قراءة النص المقدس، هي التي جعلتهما يتبنيان مفاهيم خصوصية إسلامية للعلم، كانت نتاج القيم والمفاهيم الإسلامية التي حملاها في وجدانهما متحررة، وهنا يكون الإعجاز العلمي الاسلامي المقصود ليس قاصراً علي الصور والأشكال الظاهرة للمكتشفات العلمية الحديثة، والموجود ذكرها في النصوص المقدسة، وإنما إعجاز نتاج قراءة ذات ضوابط عقلية واضحة. تعتمد علي نظرة قرائية كلية، كالتي قرأ بها د."الباز" آية سورة"يس"، وليست قراءة انتقائية، وهذا لا يتأتي إلا بالاعتراف بأن القرآن الكريم نص له سياقه الخاص، وبنيته القائمة بذاته، التي تنأي به عن تلك القراءة المعروفة بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم، ثم يجب أن نتحرر من اسر التشكيك في المناهج الغربية البحثية، حيث إن موقف المسلمين منها يعكس تناقضاً لرفضهم إياها من ناحية، وقبول نتائجهم العلمية والتدليل عليها في النص المقدس من ناحية أخري، عندئذ يكون الإعجاز العلمي الاسلامي هو نتاج وعينا نحن بواقعنا، وليس إعجاز نتاج وعي الآخر بواقعه، حتي إذا ما تطلعنا إلي المستقبل، نجحنا في أن نتوقع شكل واقعنا به، فوفقنا أوضاعنا منذ الآن تحسباً لمستقبل جاء متوافقا مع وعينا الخاص بذواتنا. إن ما قدمه كل من د."محمد عبدالسلام"، المُنظر، ود."فاروق الباز"، التقني، كان اكتشافاً للعلم بروح القرآن الكريم، فكان العلم بفضل الإيمان بالنص المقدس، وليس الإيمان بالنص المقدس بسبب فضل علم لا نملك فيه سطراً، وان امتدت حالتي د."عبد السلام"، ود."الباز" لتشمل نواحي حياتنا فإننا من اللازم أن نترفع عن الصغائر التي نحيط بها أفكارنا عن الدين، ويدرك الشباب من أبناء امتنا أننا لازال أمامنا الكثير لنحققه بالعلم، وروحه التي يجب أن تسيطر علي جنبات حياتنا، وان يأتي اليوم الذي يشملنا القرآن الكريم بفضله فيوجه عناية أبناء المجتمع للانتباه إلي العلم، وليس إلي ثقافة النقاب والحجاب، وتقصير البنطلونات حتي بات شبابنا يسير في الشوارع وكأنهم يخوضون في برك من الوحل.